30-يونيو-2024
صور نشرها جيش الاحتلال لمعاركة في قطاع غزة

صور نشرها جيش الاحتلال لمعاركه في قطاع غزة

بعد حرب "إسرائيل" على قطاع غزة (2008-2009) والتي أطلقت عليها اسم "الرصاص المصوب"، أشبع المنظّرون الإسرائيليون تلك الحرب بحثًا ونقاشًا، لصياغة أهداف الحرب المقبلة. ومن أبرز المشاركين في النقاشات الإستراتيجية التي نظّمها معهد الأمن القومي حينها، كان رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق، اللواء احتياط عوزي ديان، واللواء احتياط غيورا آيلاند رئيس شعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي، الذي شغل أيضًا منصب رئيس مجلس الأمن القومي.

استقراء معطيات مسار الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، يشير إلى أن العقيدة الأمنية الإسرائيلية تصنف فلسطينيي غزة كـ "شعب عدو"، ومنشآتهم ومؤسساتهم المدنية "جبهة داخلية لجيش العدو" الذي لا يمكن القضاء عليه إلا بضرب الشعب ومؤسساته

المُدقق في المحاضرات المطوّلة التي ألقاها ديان وآيلاند وغيرهم في معهد الأمن القومي الإسرائيلي، يجد نصائح متشابهة، أوّلًا على صعيد التوصيف المنهجي، وضرورة التوقف عن وصف المواجهات مع حماس في غزة بـ "العمليات العسكرية" بل بمصطلح حرب، باعتبار أن حماس في غزة "باتت جيشًا"، والتوقّف كذلك عن توصيف "الفلسطينيين في غزة بالمدنيين بل شعب دولة عدو"، والسلطة الفلسطينية في غزة صارت دولة تحكمها حماس، وشعبها مؤيّد لحماس، وبناءً على ذلك يجب بناء نظرية الحرب، باستهداف الشعب بوصفه "عدو" يشكّل الخزان البشري لجيش حماس في غزة، وبالضرورة تدمير البنى التحتية بشكل جذري بوصفها "الجبهة الداخلية لجيش العدو".

في الحروب اللاحقة على قطاع غزة، لم تُنَفَّذ المقترحات الإستراتيجية التي شارك في بلورتها ديان وآيلاند، واُسْتُعْرِضَت بحضور كبار القادة السياسيين العسكريين آنذاك في "إسرائيل" إلى جانب كبار المسؤولين السابقين، لاعتبارات كثيرة من بينها عدم جهوزية الجيش الإسرائيلي للدخول في مواجهة مطوّلة مع حماس، ومتغيّرات تتعلق بالساحة الدولية، خصوصًا هشاشة أنظمة الحكم في الدولة العربية المحيطة قبل الربيع العربي، ولاعتبارات إسرائيلية داخلية تتعلق برغبة بنيامين نتنياهو في تعزيز قوة "إسرائيل" كدولة عظمى في مجال الهايتك وما يتطلبه ذلك من "هدوء أمني".

استقراء معطيات مسار الحرب الحالية الجارية في قطاع غزة، لا يدع مجالًا للشك أنّ العقيدة الأمنية الإسرائيلية تصنف الفلسطينيين في غزة ليس كمدنيين، بل كشعب عدو، ومنشآتهم ومؤسساتهم المدنية "جبهة داخلية لجيش العدو"، الذي لا يمكن القضاء عليه إلا بضرب الشعب ومؤسساته، كما جاء في صلب اقتراح ديان وآيلاند.

وقبل شروع الجيوش في حروبها عادة، يتوجّب عليها تحديد "مركز الثقل" للعدو، وهو مفهوم عسكري يعني النقطة الأهم في أي تحد عسكري أو أمني، يمنحه الاتزان، وهو شرط بقائه، وضربه ضرورة للقضاء عليه أو إلحاق أذى بالغ به، مركز الثقل في حالة غزة هو الشعب والمؤسسات المدنية، وبناءً على ذلك صِيغَت أهداف الحرب الإسرائيلية الفعلية ومراحلها.

يفضّل الكثير من المتحدثين عبر الإعلام الإسرائيلي لتفسير وقائع الحرب وتطوراتها، من زاوية الأهداف التي أعلنها مجلس الحرب الإسرائيلي، مثل القضاء على حماس، واستعادة الجنود الأسرى المحتجزين لديها، وسريعًا باعتماد هذه المنهجية، يتم الاستنتاج أن جيش الاحتلال لم يحقق أيًا من أهدافه، وقد يقترب هذا التفسير من الصحة بدرجات، وقد يبتعد عنها بدرجات أخرى، لكن لا يجب الافتراض أنّ الأهداف المعلنة هي ذاتها الأهداف الفعلية، مثلًا الحرب الأميركية على العراق كان هدفها المعلن المزاعم عن "تدمير سلاح الدمار الشامل ونشر الديمقراطية"، لكن الهدف الذي تحقق على الأرض كان مختلفًا.

ومنذ الأيام الأولى للحرب على قطاع غزة، واظب غيورا آيلاند وعدد آخر من الخبراء العسكريين الإسرائيليين على الدعوة إلى ضرورة إدخال غزة في كارثة إنسانية غير مسبوقة في أسرع وقت ممكن لانتهاز التعاطف الأميركي والأوروبي مع "إسرائيل".

وقد حرص رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بعد استعادته لتوازنه النفسي والعصبي بعد أيام من السابع من تشرين الأول/أكتوبر، على عقد اجتماعات مع كبار الجنرالات في "إسرائيل" واستمع لمقترحاتهم، إلى جانب مطالعة الخطط الاحتياطية المقترحة لدى جيشه.

وبعد تشكيل "مجلس الحرب" حُدِّدَت أهداف الحرب ومراحلها، ومبكرًا كان واضحًا مدى التناقض بين الأهداف المعلنة، والمراحل، وأدوات الفعل العسكري، فالمرء ليس بحاجة لأن يكون خبيرًا عسكريًا حتى يدرك أن القصف الجوي المكثف للمباني والمنشآت المدنية يعني أن من يقوم بذلك لا تعنيه حياة جنوده الأسرى، فهذا القصف حتمًا سيؤدي إلى مقتل عدد كبير من الأسرى.

الهدف الفعلي للمرحلة الأولى من الحرب على غزة، كان إقناع الإسرائيليين الذين كانوا تحت هول الصدمة التي أغرقتهم بمخاوف وجودية، أن لديهم جيشًا قويًا قادرًا حمايتهم

إنّ هدف تحرير الأسرى المعلن للحرب يتناقض مع كل مراحل الحرب، بدءًا من المرحلة الأولى التي دامت عدة أسابيع، وتميّزت بالقصف الجوي العنيف الذي لم يستثن شيئًا في قطاع غزة. كان الهدف الفعلي لتلك المرحلة، إقناع الإسرائيليين الذين كانوا تحت هول الصدمة التي أغرقتهم بمخاوف وجودية، أن لديهم جيشًا قويًا قادرًا حمايتهم وتدمير غزة، إلى جانب منح الجيش فرصة لتعبئة صفوفه، خصوصًا جنود الاحتياط ورفع جهوزيته، وتعبئة مخازنه، وانتهاز التعاطف الأمريكي والغربي، لتحقيق مبدأ ضرب "مركز الثقل" وهم "الشعب العدو" و"الجبهة الداخلية لجيش حماس" والمتمثّل في "المؤسسات المدنية" كما يعتقد منظّرو الحرب في "إسرائيل".

أمّا المرحلة الثانية من الحرب، وهي معركة هجينة تجمع بين القصف الجوي والمدفعي المكثّف الذي يمُهد للمدرعات والعمليات البرية، وهذه المرحلة بُدِئ فيها من شمال القطاع حتى جنوبه، ومن المقرر أن تنتهي فعليًا في غضون أسبوعين بحسب تقديرات أعلنها جيش الاحتلال.

في هذه المرحلة الثانية، قال الجيش الإسرائيلي إنّه نجح في تدمير المنشآت العسكرية الأساسية لحماس والجهاد الإسلامي، خصوصًا الأنفاق ومصانع السلاح، وتفكيك ألوية قتالية من الشمال وحتى رفح، لكن هذا الزعم نفى صحّته عميت هاليفي عضو لجنة الخارجية والأمن في الكنيست عن حزب الليكود الحاكم، مستندًا إلى التقارير التي يطلع عليها بحكم عضويته في لجنة الخارجية والأمن، وبالاستناد أيضًا إلى شهادات ضباط وجنود يشاركون في معارك غزة.

أيضًا اللواء احتياط رئيس المدارس العسكرية السابق في جيش الاحتلال يتسحاك بريك، كان اعتبر أن الحديث عن تفكيك كتائب وألوية حماس ليس دقيقًا، فيما أكد غيورا آيلاند أن الوقائع على الأرض تشير إلى أن حماس تملك قدرة سريعة على التعافي في الأماكن التي يغادرها الجيش الإسرائيلي.

وعلى الأرض في المرحلة الثانية تم شقّ ممر نتساريم العسكري وهو منطقة عازلة بين شمال قطاع غزة ووسطه وجنوبه، ويبلغ طول الممر حوالي 8 كيلومترات، ويمتد بين معبر كارني إلى البحر الأبيض المتوسط، مرورًا بطريق صلاح الدين، وطريق الرشيد، وتنتشر على امتداده غرف الضبط والسيطرة والاستطلاع ومرابض المدرعات المتأهّبة لتنفيذ عمليات خاطفة على طرفي الممر.

كما تم إنشاء المنطقة العازلة على طول الحدود مع غزة، ويبلغ عرضها 800 متر بعد تخريب المناطق الزراعية وهدم مئات المنازل والبنى التحتية، وهذا يعني فعليًا مصادرة 16 في المئة من إجمالي مساحة غزة. وفي المرحلة الثالثة سيكون من المحظور على سكان القطاع العودة إلى هذه المنطقة، ومن يعود إليها ستُطْلَق النار عليه.

أهم ما يميّز المرحلة الثالثة، وفق جيش الاحتلال أنها بلا سقف زمني، وتقوم على انطلاق القوات بغطاء من القصف الجوي والمدفعي في عمليات مداهمة خاطفة تعتمد على معلومات استخبارية في عمق التجمعات السكنية، أي استنساخ الواقع الأمني للضفة الغربية في غزة، عبر عمليات عسكرية متواصلة، انطلاقًا من محور نتساريم والمنطقة العازلة، ومن محور فيلادلفيا الفاصل بين رفح الفلسطينية ورفح المصرية.

المرحلة الثالثة من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تعني منح حزب الله سُلّمًا للنزول عن الشجرة، ووقف عملية الإسناد لحماس تمهيدًا لعودة المستوطنين للمستوطنات المحاذية للحدود مع لبنان

ومثل كل مراحل الحرب، وإلى جانب الأهداف المعلنة، هناك أهداف غير معلنة، للمرحلة الثانية أولها، الإيحاء للمجتمع الدولي أن الحرب انتهت. على أن يجري تبرير كل هجوم على أي تجمّع سكني بأنه "عملية محدودة" تستهدف "تحييد تهديدات مستجدة"، وكما يظنون في "إسرائيل" فإن هذه المرحلة تعني منح حزب الله سُلّمًا للنزول عن الشجرة، ووقف عملية الإسناد لحماس تمهيدًا لعودة المستوطنين إلى المستوطنات الشمال المحاذية للحدود مع لبنان.

إنّ مراحل الحرب وأهدافها واستمرارها، حتى الآن تكاد تكون محل إجماع في "إسرائيل" وليس هناك حزب سواء في المعارضة أو الائتلاف يقدّم بديلًا يقوم على وقفها، الخلاف الوحيد في هذا يتمحور حول ما يوصف في "إسرائيل" بـ "اليوم التالي" أي الجهة التي تتطلّع "إسرائيل" لتسليمها سدّة الحكم في غزة.

المعضلة الاستراتيجية التي تهدد استمرار المرحلة الثالثة هي مواصلة حزب الله معركة الإسناد، وإصرار حماس على ربط ملف الجنود الأسرى بوقف الحرب والانسحاب الكامل من القطاع

المعضلة الاستراتيجية التي تهدد استمرار المرحلة الثالثة إسرائيليًا، هي مواصلة حزب الله معركة الإسناد للفصائل الفلسطينية في غزة، التي أعلن عنها في 8 تشرين الأول/أكتوبر، وإصرار حماس على ربط ملف الجنود الأسرى بوقف الحرب والانسحاب الكامل من قطاع غزة، والتقييم الرائج في "إسرائيل" في هذا الإطار يرى أن يحيى السنوار وحسن نصر الله لن يتراجعا عن مطلب إنهاء الحرب.

ويجب ألا يغيب عن الأذهان أن ما يُعْلَن من جانب "إسرائيل" بشأن المرحلة الثالثة من الحرب بخصوص استمرارها لسنوات، قد يكون مرتبطًا بالمفاوضات الرامية للتوصل لصفقة تبادل أسرى، وهذا يعني أنّ التلويح بذلك قد يكون جزءًا من لعبة التفاوض، وأنه قد تُقَدَّم تنازلات مثل وقف الحرب.