منذ شهور وأنا أعمل على رسالتي لدرجة الماجستير؛ والتي تبحث في إشكاليّة آليّات عمل لجان التحقيق في إسرائيل، ودور هذه اللجان التي يتمّ تعيينها من قبل الدولة في "مسرحة" العمل السياسي وتبرئة الدولة من أفعال أجهزتها الجرميّة بحق إمّا "مواطنيها" أو حتّى أعدائها، وذلك بنسب هذه الأفعال إلى الأجهزة ووصفها على أنّها أحداث ذات طابع تقني وليس سياسي. بمعنى أن ما تقوم به اللجنة هو نزع الطابع السياسي عن الأحداث ذات الطابع السياسي، كالمجازر وقمع التظاهرات بوحشيّة، ووصفها أنّها وقعت نتيجة لأخطاء تقنيّة أو حتى إشكاليّات نفسيّة لدى مرتكبيها.
بمعنى أو بآخر، إن وجود لجان التحقيق يكشف عن آليّات عمل أيديولوجيّة الدولة في المجتمع، وكذلك، يكشف عن هيمنة الرواية الرسميّة التي تقدّمها الدولة، أي دولة بما في ذلك إسرائيل بوصفها مشروعًا استعماريًا صهيونيًا، هيمنتها على مجتمعها وإلى حد كبير على المجتمع الدولي.
لا يتوقّف وجود السلطة الفلسطينية على امتلاكها للعنف اللازم لوجودها، بل يتعدّاه ليتوقّف على تحالفها الوظيفيّ مع أجهزة الأمن الإسرائيلية
منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها الكتابة في هذا الموضوع وأنا أفكّر في الحالة السياسيّة الفلسطينيّة في قطاع غزّة والضفة الغربية، وكذلك منظمة التحرير بوصفها الهيئة السياسيّة الأعلى الممثّلة للفلسطينيين والقضية الفلسطينيّة. ما أعتقده الآن؛ أنه إن كان وجود لجان تحقيق الدولة يكشف عن هيمنة الدولة و"مَسْرَحَتِها" للسياسة لاحتكارها لنخبةٍ تملك الإمكانيّات التي تؤهّلها لفعل ذلك، فانعدام وجود هكذا أدوات في العمل السياسي، كلجان التحقيق أو لجان تقصّي الحقائق، يكشف عن لامبالاة النخبة الحاكمة بأيّ معنى من معاني الشرعيّة لوجودها، لأنّها في النهاية سلطة أمرٍ واقعٍ ولا تحتكرُ العنف فحسب، بل وجودها رهنٌ بوجوده، وفي الحالة الفلسطينيّة، في الضفّة الغربية على وجه الخصوص، لا يتوقّف وجود السلطة الفلسطينية على امتلاكها للعنف اللازم لوجودها، بل يتعدّاه ليتوقّف على تحالفها الوظيفيّ مع أجهزة الأمن الإسرائيلية.
هل من رواية رسميّة؟
للجان التحقيق في الدولة وظيفة أخرى هي إعادة إنتاج "الرواية الرسميّة" للدولة، والتأكيد عليها وجعلها مقبولة بواسطة تقرير رسميّ يُظهِرُ الدولة على أنّها بُنية تعرّضت لتصدّع جرّاء أفعال أجهزتها. في حالة إسرائيل، ولمّا كان العالم يوشك على أن يَصِمَ إسرائيل بارتكاب جريمة إبادةٍ لشعبٍ في صبرا وشاتيلا، جاء تقرير صبرا وشاتيلا عبر "لجنة كاهان" التي تمّ تعيينها بواسطة الحكومة، لتعيد إنتاج الرؤية الرسميّة للدولة على أنّها دولة تحترم حقوق الإنسان، بل وتحترمها أكثر من غيرها من الدول، إلى درجة تشكيل لجنة تحقيق وهي لا تزال منغمسة في الحرب في لبنان، وذلك تمامًا ما أكّدت عليه صحيفة إيطاليّة آنذاك.
كان تقرير "كاهان" عبارة عن وثيقة علاقات عامّة لتحسين صورة إسرائيل كدولةٍ حديثةٍ تُطبِّقُ المعايير الدوليّة لحقوق الإنسان وحريّاته وحُرمة النّفس البشريّة في مجتمعها وفي المجتمع الدوليّ. ورغم ارتكابها للمجزرة، ورغم الفظاعات التي اقترفها قادتها في لبنان وفي فلسطين من مجازر لا حصر لها؛ إلّا أنّ تلك الوثيقة صدرت وكان لها الفعاليّة المطلوبة في المجتمع الإسرائيليّ، وفي المجتمع الدوليّ. هكذا عادت إسرائيل مرّة أخرى لتكون الدولة التي تصوّر نفسها على أنّها عليها، وليكون المجتمع الإسرائيلي هو المجتمع ذات مرّة أخرى، وما "صبرا وشاتيلا" إلّا خطأ تقنيًا تمّ النّظر فِيهِ وتَلافِيه رغم آلاف الضحايا.
كما ذكرت سابقًا، إن وجود اللجنة يكشف عن شيء كما انعدام وجودها يكشف عن شيء أيضًا. في حالة إسرائيل، هنالك رواية رسميّة صهيونيّة عن مجتمع مهاجرين يهود تعرّضوا للاضطهاد أوروبيًا وشيّدوا حلم الدولة في صحراء قاحلة، لهم حقُّهم الدينيّ في الأرض كما لهم الحقّ التاريخيّ. وهكذا تدوّن الدولة في إسرائيل سيرتها الذاتية التي لو للحظة تمّ التخلّي عن جزءٍ منها لتبعثرت أجزاؤها الأخرى.
فلسطينيًا، ليس للرواية الرسميّة أو حتّى للحقيقة الرسميّة أي مكان في أدبيّات السلطة السياسيّة. مجرّد هراء يقال في شاشات التلفاز
فلسطينيًا، ليس للرواية الرسميّة أو حتّى للحقيقة الرسميّة أي مكان في أدبيّات السلطة السياسيّة. مجرّد هراء يقال في شاشات التلفاز. فإن كانت الرواية الرسميّة هي رواية القضيّة الفلسطينيّة، والتي لست في حاجة لكتابة ولو كلمة عنها، فإنّ الاعتقال السياسي من جهة، التنسيق الأمنيّ من جهة أخرى، الإفراطُ حتّى في التنسيق الأمنيّ والتطبيع المعلن مع الاحتلال لا يناقض تلك الرواية وحسب، بل يمحوها ويعمل على محوها على أرض الواقع. فالسلطة الفلسطينيّة ما بعد عرفات هي مجموع آليّات عملٍ تكنوقراطيّة مدعومة بأجهزة أمنيّة على تحالف وظيفيّ مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، تخدم غايات وجود النخبة الاقتصاديّة والسياسية المسيطرة، كما تخدم بوجودها قمع أيّ حالة تمرّد فلسطينيّة، بما يحافظ على حالة الازدهار في المشروع الصهيوني في فلسطين، وفي الضفّة الغربية على وجه الخصوص.
ذلك التوصيف يقود إلى حقيقة واحدة؛ إن انعدام وجود لجان تحقيق رسميّة في العديد من السلوكيّات القمعيّة، الإجراميّة واللاوطنيّة لمسؤولي السلطة الفلسطينيّة وأجهزتها الأمنيّة؛ هو نتاج وجود سلطة قهريّة تكنوقراطيّة قائمة على سلطة الأمر الواقع، وليست في وارد البحث عن أي نوع من أنواع الشرعيّة السياسيّة أو الوطنيّة، لأنّ وجودها يستند إلى احتكارها للعنف وتحالفها مع الاستعمار، وليس إلى الشرعيّة المستمدة من مجتمعها. في تلك الحالة لا تحتاج السلطة إلى التحقيق في سلوك الأمن القمعي، أو موت بعض المعارضين في سجونها، أو التحقيق في ملف التنسيق الأمنيّ والأضرار التي ألحقها بالمقاومة وعناصرها في الضفة الغربية وقطاع غزة من قبل.
اقرأ/ي أيضًا:
هل سيُقايض القضاة استقلال القضاء بمنافع اقتصادية؟