يشتد في الآونة الأخيرة رمي السهام باتجاه وسائل الإعلام، وقد بدأت هذه السهام تأتي من القضاة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، ثم امتدت لتأتي على لسان وزير العدل، ثم نقيب المحامين، على خلفية بثّ إذاعة محلية تقريرًا صحفيًا قارنت فيه بين قرارين صدرا عن محكمة العدل العليا، وقالت إنهما متناقضان، بعد قرارٍ أصدرته المحكمة يقضي -بشكل مؤقت- بإيقاف النائب العام أحمد براك عن العمل في وظيفته كنائب عام.
الصراع بين القضاء والإعلام هو تصديرٌ لصراعٍ خفي بين أباطرة الحكم في السلطة الفلسطينية
القضاة ووزير العدل ونقيب المحامين، أجمعوا أنه لا يجوز لوسائل الإعلام أن تبدي رأيًا في قضية ما زالت منظورة أمام المحاكم، وكأن القضاء يم تناوله للمرة الأولى في وسائل الإعلام! أو كأن لم تصدر بياناتٌ ومؤتمراتٌ ضد القضاء والقضاة من قبل على لسان مسؤولين كبار دون أن ينبس أحدٌ ببنت شفته. فيما رد الإعلاميون بقوة أن الإعلام يتمتع بأعلى درجات الحرية، ولا يجوز تقييده أو تهديده أو الضغط عليه، ومسؤوليته هي نقل الحقيقة.
اقرأ/ي أيضًا: هل سيُقايض القضاة استقلال القضاء بمنافع مالية؟
الصراع المتزايد بين القضاء والإعلام ليس هو الصراع الحقيقي، إنما هو تصديرٌ لصراعٍ خفيٍ بين أباطرة الحكم في السلطة الوطنية الفلسطينية. وساحة القضاء باتت بمثابة الساحة الرئيسية التي تجري على أرضها المعركة الخفية بين الأباطرة، وأصبح جزءٌ من القضاة والمحامين لاعبين فيها، والقضاء المستقل هو الخاسر الوحيد فيها، فأيًا كان المنتصر في المعركة الخفية، سيعزز هيمنته على القضاء، وسيواجه القضاء المزيد من الاستنزاف والسيطرة والخضوع، فالقضاء لا يمكنه الصمود في وجه معركةٍ طاحنةٍ تجري على ساحته، بل أصبح بعض أطرافه جزءًا منها.
يبدو أن أروقة السلطة الوطنية الفلسطينية تشهد إعادة موضعة بين أقطابها، فمركز القوة الذي سيطر على القضاء لفترةٍ طويلةٍ خلال السنوات الماضية، تم كبح سلطاته وإقصاء أتباعه بقراراتٍ صدرت عن ذات المحكمة التي كانت تخضع بغالبية قراراتها لسيطرته، وأطاح برئيسي مجلس القضاء السابقيْن، وتعززت سلطته على القضاء.
الحالة الآن تغيرت، وبرزت على ما يبدو في الساحة قوةٌ جديدةٌ أكثر تأثيرًا في الشأن القضائي، أعادت القوة والتأثير لمراكز سابقةٍ تم إضعافها، وهي تمهد لخطواتٍ جديدةٍ في الساحة القضائية تمكنها من إحكام السيطرة على القضاء لمرحلةٍ زمنيةٍ جديدة، وبالتأكيد سيتم تنفيذها تحت مسمى برنامج إصلاحي للقضاء.
أروقة السلطة الوطنية الفلسطينية تشهد إعادة موضعة بين أقطابها، وبرزت في الساحة قوة جديدة أكثر تأثيرًا في الشأن القضائي
حالة الاستقطاب بعد قضية النائب العام واسعة، وعنوانها للمعسكر الذي يريد سد الطريق على عودة النائب العام، هو رفض تدخل وسائل الإعلام في العمل القضائي، بدعوى الخوف من التأثير على استقلاليته. أما المعكسر الذي يريد أن يعود النائب العام إلى موقعه فشعاره وجوب إصلاح القضاء وتطهيره، ويعكس تحالفًا خفيًا بين مراكز قوة عدة التقت مصالحها، وكلا المعسكرين يقع في آخر همهما أن يتم إصلاح القضاء أو أن يصان استقلاله، وما القضاء بالنسبة إليهما إلا ساحة تُصفَّى على أرضها الحسابات المختلفة.
اقرأ/ي أيضًا: اقتناص الوظائف العليا في دولة يحدها حزب واحد
لا أعتقد -كما أشرت سابقًا- أن الصراع بين القضاء والإعلام هو الصراع الحقيقي، ولا يجوز أن يكون الإعلام أحد ضحاياه، فلا يضير القضاء أن تتناول وسائل الإعلام إحدى القضايا المنظورة أمامه مثل قضية النائب العام. فقضية وقفه عن العمل ليست قضية عادية، بل هي قضية رأي عام تهم كل مواطنٍ فلسطيني، وتكشف عن صراعاتٍ مريرةٍ خفيةٍ في مؤسسة الحكم ومؤسسة القضاء، وتكشف عن مصائب قانونية كبيرة في النظام السياسي، وعن صراعٍ شخصي يطفو على السطح، وغير ذلك من الأمور التي يتوجب على الإعلام أن يتناولها بجرأةٍ وحرية، فما يتم تداوله في الغرف المغلقة يفوق بكثير ما تتناوله وسائل الإعلام حتى الآن، بل أجزم أن وسائل الإعلام ما زالت مغلوبة على أمرها، ولم تتناول ما يجب تناوله في ما يجري داخل القضاء وحوله.
الغريب في الأمر أن تناول هذه القضية في وسائل الإعلام يعتبره البعض "تدخلاً في الشأن القضائي"، لكنهم لا يصنفون تضامن مسؤولين تنفيذيين كبار في السلطة التنفيذية مع القضاة؛ وانتقادهم لوسائل الإعلام، مساسًا بالقضاء وتدخلاً في شأنه، رغم أنه لطالما كان يرى القضاة في أية مقترحاتٍ إصلاحيةٍ سابقًا أنها تمكين للسلطة التنفيذية على السلطة القضائية.
واللافت للانتباه أيضًا أن صراع الأباطرة خلق إعادة تموضعٍ في خارطة التحالفات. جزءٌ كبيرٌ انتقل من معسكره إلى المعسكر المضاد، فالسلطة التنفيذية ونقابة المحامين اتفقا في الرأي وأسندا القضاء برفضهما لتدخل وسائل الإعلام.
أما مراكز القوى الأخرى المتحالفة بشكل خفي وتبدو أيضًا متعددة الأقطاب، فبدأت تبث الروح في فكرة إصلاح القضاء؛ "التي من خلالها يمكن أن يعاد ترتيب القضاء"، وقد دعم موقفها بيان المجلس الثوري في حركة فتح الذي تناول القضاء في بيانه الأخير للمرة الأولى. هذا إضافة إلى تبدل البعض عن آرائهم السابقة فيما يتعلق برؤية إصلاح القضاء، وكأننا أمام التمهيد لعاصفةٍ قادمة.
أعتقد أن صراع الأباطرة في بدايته، والأيام والأسابيع القادمة قد تشهد خطواتٍ دراماتيكيةٍ مفاجئة، فحسم الصراع بين الأباطرة لن يكون إلا بسحق قوة طرفٍ لصالح طرفٍ آخر منهما. ولا أعتقد أن الرئيس الذي يتأنى بالعادة في ما يتعلق بالشأن القضائي على علمٍ حقيقيٍ بخارطة الصراع، فنجاح أيٍ من الأطراف المتصارعة في إقناعه بتبني رؤيته، يعني نجاحه في حسم هذا الصراع لصالحه، إذ لا يوجد صوتٌ آخر يمكن أن يسمع إلى الرئيس لغاية اليوم، غير صوت الأباطرة، وما يُزيَّنُ بها من أصواتٍ تبدو محايدة بشكلها، لكنها في جوهرها تزاوجت معهم زواج المصلحة.
اقرأ/ي أيضًا:
حين يضيع الصلح حقوق الضحايا.. أوراق من غزة