03-نوفمبر-2018

لا تمرُّ كثيرٌ من صكوك الصلح التي يُبرمها رجال الإصلاح في قطاع غزة والضفة الغربية دون جدلٍ كبيرٍ حول ما يصفه البعض بأنه ظُلمٌ للضحية، ويراه آخرون جُهدًا هامًا يحقن الدماء ويحمي السلم المجتمعي، ما يمنح بعض القضايا أهمية أكبر من تلك التي حازت عليها عند حدوثها. الترا فلسطين يبحث هذا الملف مستمعًا إلى أطرافه.

فبسبب 10 شواكل، حدثت مشادةٌ كلاميةٌ بين "س" دغمش و"م" بدران، ثم تجدّدت بعد ساعتين وتطوّرت إلى اشتباكٍ بالأيدي ثم العصي، إذ هجم "س" مع أصدقائه على "م" واعتدوا عليه حتى تسببوا بدخوله المستشفى مصابًا بجروحٍ غائرةٍ وكسرٍ في اليد اليمني والساق أيضًا.

فضّت الشرطة الشجار، وألقت القبض على المُعتدي بعد أن فرّ أصدقاؤه، لكن في أقل من 24 ساعة كان خارج السجن؛ بموجب كفالةٍ بقيمة ألفي شيكل، مع تقديم ورقة مصالحة/ صك صلح توصل إليها "رجال الإصلاح" بين الطرفين، على أساس إلزام عائلة المُعتدي بدفع مبلغ 500 شيكل لبدران.

شكاوى من "توقيت" بعض رجال الإصلاح في التدخل لحل خلافات وإبرام صكوك صلح

احتاج بدران لأسبوعين حتى يتماثل للشفاء، ثم توجه إلى المحكمة طالبًا حقه المدني من اعتداء دغمش عليه، لكنه فوجئ بأن المحامي يخبره برد القضية، لأن ورقة الصلح تضمنت بندًا يُسقط حقة المدني في القضية، "ليجنن جنونه" ويعود لوالده وعمه فيخبراه أنهما لم يهتمَّا كثيرًا لهذا البند. "كنت مشغول فيك ولم أقرأ الورقة من الأساس" قال والده.

اقرأ/ي أيضًا: غزة.. القضاء العشائري رديفًا للمحاكم.. هل نجح؟

يُبين بدران لـ الترا فلسطين أن ورقة الصلح التي أُنجِزَت على عجل حرمته من حقّه في التعويض عن الاعتداء الذي تسبّب له بقصور في عمل يده اليمنى، مضيفًا، "لن أسامح رجال الإصلاح على ما سببوه لي من أذى فقد استغلوا طيبة والدي وعمي وجهلهما بالقانون، وأنهوا القصة بـ500 شيكل لم تكفني علاجات" على حد قوله.

"أم ماهر حلّس" تعرض منزلها شرق مدينة غزة لإطلاق نار من قبل شبان خلال اشتباكٍ بين عائلتها وأفراد من عائلة أخرى على خلفية قضية قديمة، وقد تسبب الرصاص بإتلاف نافذة المنزل والثلاجة. تقول: "لم نُغمض عيوننا طوال الليل خلال الاشتباك الذي الحدث، ومع الخوف والرعب الذي حدث لي ولأطفالي خسرت الثلاجة وشباك البيت".

تُبين "أم ماهر" أنها لم تنجح في الحصول على حقها نتيجة ورقة الصلح التي أُبرِمت بين العائلتين إثر انتهاء الاشتباك، ونصّت على التنازل عن الحق المدني. "طلعت أنا الخسرانة مع أنه لا دخل لنا في المشكلة الأساسية" قالت "أم ماهر".

وفي السياق ذاته، تعرض أحمد حسن (20 عامًا) إلى حادث دهس قبل أربع سنوات، أسفر عن قطعٍ في وتر يده اليُسرى، وخلعٍ في الكتف، وكسرٍ في الحوض. يوضح أن رجال الإصلاح أبرموا ورقة الصلح خلال وجوده في المستشفى؛ قبل أن يتبين والده حجم الضرر الذي لحق به نتيجة الحادث، وقد وقّع الأب نيابة عن ابنه الذي كان قاصرًا آنذاك.

يخفي بعض رجال الإصلاح  أحيانًا بعض التفاصيل التي تمكن الضحايا من تحصيل حقوقهم بالقضاء

لا يلوم أحمد السائق بقدر لومه لرجال الإصلاح، وعندما تواصل معهم أخبروه أن والده وقَّع على الصلح وقَبِلَ بكل ما تم وضعه في البنود. علِمَ أحمد بعد ذلك بأن السائق كان مؤمنًا على السيارة لكنه رفض فتح التأمين واكتفي بدفع 1000 شيكل لعائلة أحمد، ولم يكن والده يعلم بالأمر، فيما لم يُنبّه رجالُ الإصلاح، الأب لذلك.

اقرأ/ي أيضًا: الترحيل.. عقاب جماعي خارج القانون لعائلات القتلة

رجل الإصلاح عودة الصوفي، وهو من الشخصيات العشائرية المعروفة في قطاع غزة، يرى أن المشكلة تكمن في أن "هناك رجال إصلاح عبارة عن مظهر وليس لديهم أي معرفةٍ بالعادة والعرف الحقيقي، فالعدل أساس عمل العرف والعادة، لكن الجهل وعدم المعرفة ووجود أشخاص يعتقدون أنهم ينفعون للإصلاح والإفتاء أضعف عمل رجال الإصلاح" على حد قوله.

وأضاف، "نحن في عملنا الإصلاحي نحرص على السلم المجتمعي ونشر القيم الإسلامية، والعمل وفق العدالة وبما فيه مصلحة للطرف المعتدى عليه بحيث يحافظ على حقة".

ويُبين الصوفي أن عمل رجال الإصلاح يبدأ بطلبٍ من أهل الجاني لغاية حقن الدماء ومحاصرة المشكلة، مضيفًا، "يبدأ الحديث بكلمة وجهنا عليكم، فهي جملة لا يمكن ردها من قبل أي شخص ومن ثم يتحدثون لأهل المجني عليه لحل الأشكال بعد سماع طلباتهم".

رجل الإصلاح عودة الصوفي: بعض رجال الإصلاح يقفون بجانب الجهة القوية عائليًا أو تنظيميًا

بعد موافقة الطرفين على إنهاء الخلاف، بدفع تعويض أو بدونه، يتم كتابة ورق تتضمن بنود الاتفاق، ثم يتلو رجل الإصلاح القراءة بشكلٍ مسموع حتى ينتبه من حضر الجلسة إذا كان أحد البنود يظلم طرفًا لصالح طرف. يقول الصوفي: "هنا يحدث الإشكال عندما لا يتم قراءة الورقة بشكل مسموع".

اقرأ/ي أيضًا: السلاح الأبيض.. جريمة في جيوب أطفال غزة

ويؤكد الصوفي لـ الترا فلسطين أن بعض رجال الأصلاح ممن وصفهم بأنهم "لا يتقون الله" يستغلون طيبة بعض الضحايا أو جهلهم بالقانون، ويُكررون الطلب أكثر من مرة حتى يخجل الشخص ويتنازل، كما أن بعضهم يقفون بجانب الجهة القوية عائليًا أو تنظيميًا، "وهذا أضعف عمل رجال الإصلاح، فهناك من رجال الإصلاح من يُشترى بسيجارة" وفق قوله.

ويشدد على أن ورقة الصلح لا يُمكن التراجع عنها ولا تعديلها إلا في حالاتٍ نادرة، "لأن خروج رجال الإصلاح لا يكون بشكل مجانيٍ بل يتضمن توفير تكاليف المواصلات وبطاقات شحن لهواتفهم".

ورقة الصلح منصوص عليها قانونيًا، وفق ما أفادنا به محامي مؤسسة الضمير  في غزة محمد البردويل، مبينًا أنها وردت تحديدًا في قانون الإجراءات الجزائية الذي نص على أنه لا يُمكن الإفراج عن مُرتكب الجنح مقابل كفالة إلا في حال جلب ورقة صلح، وذلك حفاظًا على الأمن وحتى لا تتفاقم المشكلة وتحدث تبعات لها. لكن البردويل نوّه إلى أن ورقة الصلح لا تُسقط الحق العام أو الحق المدني، ولكل منهما محكمة خاصة.

خبير قانوني: ورقة الصلح لا تُسقط الحق العام، لكن لا يُمكن التراجع عنها

وقال البردويل: "حتى لو أُسقط الحق المدني بموجب بندٍ في ورقة الصلح، فإن الحق العام يبقى قائمًا، وتكون العقوبة في حالة وجود ورقة صلح تقديرية للقاضي في المحكمة، إما بالغرامة أو بالسجن وفق الجرم الذي ارتكب" مؤكدًا أنه لا يُمكن التراجع عن ورقة الصلح، "فالقانون لا يعذر الجهل فيه، ومن وقع على ورقة صلح لم يُجبر على ذلك".

اقرأ/ي أيضًا: نساء معلقات على حبال ظلم القانون والمجتمع

وبيّن البردويل لـ الترا فلسطين أن نجاح رجال الإصلاح في التوصل إلى أوراق صُلح ليس مضمونًا على الدوام، "فهناك الكثير من القضايا في أروقة المحاكم لم يتنازل فيها أصحاب الحق عن حقوقهم"، مؤكدًا أنه في الوقت ذاته هناك الكثير من القضايا التي فقد فيها أصحاب الحق، حقوقهم، نتيجة ورقة الصلح.

ورغم كل ما قالته الأطراف السابقة عن ورقة الصلح، إلا أن العقيد أيمن البطنيجي، المتحدث باسم الشرطة في غزة، يؤكد أن ورقة الصلح لا تكفي لإطلاق سراح المشتكى عليه؛ إلا في حال حضور المشتكي لمركز الشرطة والتنازل عن القضية، معتبرًا أن ذلك يمنح مساحة للتفكير في ما كُتب في الورقة، "فورقة الصلح هي عبارة عن تراضي بين طرفين فقط" كما قال.

ويقول البطنيجي لـ الترا فلسطين إن الشرطة لا تعترض على أوراق الصلح، بل تشجع أطراف النزاع على الحل بطرقٍ ودية، لكنه أكد في الوقت ذاته أن الشرطة وقفت في حالات كثيرة ضد ورقة الصلح، وطلبت من النيابة العامة عدم القبول بها ورفض الإفراج عن الجناة "لأن المشكلة قائمة وجروح المجني عليه لا زالت غائرة" كما قال.

ورأى البطنيجي أن القضاة يتحلمون جزءًا من مشكلة اللجوء إلى الحل بورقة صلح، لأنهم يُبادرون بطلبها وإنهاء الخلافات بحصول المعتدي عليها، مطالبًا القضاة بالتشديد على الجناة ومحاسبتهم قبل طلب ورقة الصلح.

وبيّن البطنيجي أن دخول ورقة الصلح إلى حوادث السير وكذلك احتجاز السائقين لا يستند إلى أساس قانوني، بل أصبح عادةً وسيطر على القضاء، "القانون لم يشر إلى ذلك، فكل سائق لديه تأمين ساري، ويجب فقط أخذ إفادته داخل مركز الشرطة ثم إطلاق سراحه ليُكمل هو إجراءات فتح التامين وإرضاء من وقع عليهم الضرر".

ويُمكن القول، إنه رغم تظلّم أطرافٍ كثيرةٍ من هذا الحل العشائري، إلا أن أطرافًا أخرى تُقرُّ أنه نجح بالفعل في حسم قضايا كانت ستستغرق وقتًا طويلاً في القضاء. وعلى أي حال فإن هذا الحل لا يزال قائمًا "بحلوه ومرّه" وبصرف النظر عن كل الاحتجاجات عليه.


اقرأ/ي أيضًا: 

فيسبوك لتجارة السلاح في غزة.. والأمن يراقب

مَنشَد ومُسدس ومبسوطون

عرسان في غزة من "شهر العسل" إلى قضبان السجون