مقال رأي
مفهوم "القضية الفلسطينية" غائب عن الوعي السياسي الجمعي ليس للفلسطينيين فحسب، بل لدى غالبية مكونات العالم الرسمية والشعبية. فنادرًا ما عدنا نسمع في وسائل الإعلام المحلية والدولية وتصريحات المسؤولين السياسيين مصطلح "القضية الفلسطينية"، واختزل هذا المفهوم أو المصطلح بدلالته العميقة بمفاهيم ومصطلحات أخرى، كان آخرها مفهوم الحل الإنساني لقطاع غزة دون أن نعترف فلسطينيًا بهذا التلاشي لمفهوم القضية الفلسطينية.
العالم يغيب عنه شيء اسمه "القضية الفلسطينية"، وتبدّل وعيه بشيء اسمه "الحل الانساني لكارثة غزة"
يصنف هذا المفهوم بأنه من أهم المفاهيم المرتبطة بالوعي السياسي الفلسطيني، ويلخص تاريخ الشعب الفلسطيني في كلمتين لهما دلالة عميقة، فمفهوم "القضية الفلسطينية" يشمل مراحل تاريخية بدأت من مرحلة ما قبل الانتداب البريطاني لفلسطين، ومن ثم ظهور الحركة الصهيونية والمقاومة، ويتسع ليشمل الثورة العربية الكبرى، اتفاقية سايكس بيكو، وعد بلفور، مرحلة الانتداب البريطاني، الهجرة اليهودية، الثورة الفلسطينية الكبرى، قرار تقسيم فلسطين، النكبة، مجزرة دير ياسين، قيام دولة إسرائيل، حرب 1948، حكومة عموم فلسطين، هدنة 1949، الضفة الغربية وقطاع غزة، حرب 1956، حرب 1967، منظمة التحرير، منظمة التحرير في الأردن، منظمة التحرير في لبنان، انتفاضة الحجارة، إعلان الاستقلال، مؤتمر مدريد، اتفاق أوسلو، نشوء السلطة الفلسطينية، وما تلا ذلك من تطورات سياسية.
اقرأ/ي أيضًا: "خارج الإطار".. حكاية شعب في بحثه عن صورته
بقيت القضية الفلسطينية حية في الوعي الفلسطيني لمرحلة طويلة، وكان إحياء هذا المفهوم هو الانجاز الأهم لمنظمة التحرير منذ نشأتها عام 1964، حيث أعادت إحياء المفهوم ليس في الوعي الجمعي الفلسطيني فحسب بل في الوعي العربي والعالمي، وتصدت المنظمة بقوة لمحاولات تبديد هذا المفهوم، ورفضت أن يستعاض عنه بأي مفهوم آخر حين حاول المجتمع الدولي ترويج مفهوم حل الصراع العربي – الإسرائيلي على حساب مفهوم حل القضية الفلسطينية، فكلمة القضية تشمل كل الحقوق الفلسطينية ومن ضمنها حق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره. بينما مفهوم الصراع العربي – الاسرائيلي يختزل الصراع إلى صراع حدودي وليس وجودي، وتخص فقط المراحل التي تلت حرب عام 1967، وتم التعبير عنها بقرارات أممية مثل قرار مجلس الأمن رقم 242، وهذا كان سببًا لرفض منظمة التحرير لسنوات عديدة لهذا القرار باعتباره يتجاهل للقضية الفلسطينية، وبقيت المنظمة على موقفها إلى أن اعترفت به في أوائل التسعينات تمهيدًا للمشاركة في مؤتمر مدريد، وكان ذلك بداية لتلاشى مفهوم القضية الفلسطينية.
الضربة القاسمة الثانية التي أصابت مفهوم "القضية الفلسطينية" في الصميم كانت في عام 2007، حين حصل الانقسام الجغرافي والسياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث سيطر على الوعي الجمعي منذ ذلك الحين الصراع الفتحاوي – الحمساوي على حساب أي مفهوم آخر، وحجم ما ورد على لسان قادة الفصيلين من تصريحات بشأن الصراع بينهما هو أضعاف مضاعفة لما ذكر حول الاحتلال الإسرائيلي، وأصبح مفهوم الصراع مع إسرائيل صراعًا ثانويًا في الوعي الفلسطيني.
يجب أن لا يغيب عن بال الفلسطينيين أن العالم على المستويين الرسمي والشعبي يغيب في هذه الأونة عن وعيه شيء اسمه "القضية الفلسطينية"، وتبدّل وعيه بشيء اسمه "الحل الانساني لكارثة غزة"، وصار ذلك هو الأهم في الاهتمام السياسي الدولي، والسياسات التي تتخذها الدوائر الحاكمة في الضفة الغربية وقطاع غزة تخدم هذا التوجه بوعي وغير وعي، وفي مقدمة ذلك العقوبات المفروضة على قطاع غزة، وما يقابلها من سوء إدارة في قطاع غزة.
اقرأ/ي أيضًا: وثائقيات الجزيرة.. حكاية النكبة وحكاية الثورة
مفهوم القضية الفلسطينية ضاع بين فصيلين كبيرين، فصيل يدير شؤون غزة اسمه حركة حماس يرى بأنه جزء من حركة اقليمية، وأعمال المقاومة التي يقوم بها تهدف إلى تحريك الحل الإنساني لقطاع غزة. وفصيل آخر اسمه حركة فتح اندمجت بالسلطة الفلسطينية منذ نشوئها، وأفرغت منظمة التحرير من مضمونها لتصبح منظمة ضعيفة متهالك انتشر العفن في داخلها، ووصلت إلى مرحلة بات فيها من الميئوس إصلاحها، لكن يتم التغني بماضيها باعتبارها هدفًا وهي في الواقع وسيلة، والهدف هو القضية الفلسطينية.
الفلسطينيون بحاجة إلى وسيلة جديدة تعيد إحياء مفهوم "القضية الفلسطينية"
الفلسطينيون بحاجة إلى وسيلة جديدة تعيد إحياء مفهوم "القضية الفلسطينية"، فهم بحاجة إلى منظمة تحرير فلسطينية بحلة جديدة، تحمل نفس الاسم بمضمون جديد، لها رؤيا وبرنامج سياسي جديد، لها قيادة جديدة منتخبة من الشعب مباشرة، تكون كل السفارات الفلسطينية مراكز انتخابية لقيادتها كل أربع سنوات، تعمل بنظام داخلي وبرنامج سياسي اختاره الفلسطينيون، يقودها شباب بمتوسط أعمار قادة المنظمة حين أنشئت عام 1964، أمّا قيادتها الحالية فلا خيار لها سوى العودة إلى بيوتها وضمان رواتب تقاعدية تضمن لهم حياة كريمة دون أي تدخل في الشأن العام، منظمة تشارك فيها كل مكونات الشعب الفلسطيني بما فيها حماس والجهاد، منظمة تؤمن بالتعددية والاختلاف في داخل إطارها، حجم تمثيل الأحزاب داخلها يعكس حجمها الانتخابي، لا تفرض عقوبات مالية على مخالفي سياساتها، وتنتقل من حكم الفرد إلى الحكم الجماعي، لها هدف واحد هو القضية الفلسطينية، منظمة يفوّضها الشعب، وبمثل هذه المنظمة يمكن للقضية الفلسطينية أن تعود إلى الواجهة، وينبعث الفلسطينيون من جديد.
اقرأ/ي أيضًا: