16-مارس-2019

عقب انتهائه من تسجيل أغنيتين للألبوم الجديد، هرب جورج توتري من برودة طقس الشتاء في محل إقامته بالسويد إلى منزل العائلة في مقاطعة مورسية الإسبانية، هادفًا إلى عزلة تأخذ قلمه نحو كتابة رواية أو نصٍ لفيلم كما قال لـ الترا فلسطين عندما اتصلنا به لإجراء مقابلة معه.

ولد جورج توتري عام 1946 في مدينة الناصرة قبل الاحتلال الإسرائيلي لها، ودرس في مدرسة تابعة للكنيسة اللاتينية، وعلى وقع صدى الأجراس، كان يرتل أغاني القداس في الكنيسة.

جورج توتري هاجر من الناصرة إلى السويد، وأنشأ فرقة "الكوفية" التي تغني بلغات أجنبية عن فلسطين والاحتلال

في الناصرة وقع على جورج ظلم الحاكم العسكري الإسرائيلي، ونمت بداخله "الروح الوطنية والقومية"، وأحبَّ الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر "الذي تعلقت الآمال حوله بخلاص قريبٍ من إسرائيل". لكن خسارة الحرب عام 1967 كانت بمثابة الصدمة له، "الجميع أصيب بالإحباط، لأننا وثقنا بجمال عبد الناصر الفرد، ونسينا مؤسسات مصر الدولة" قال جورج.

اقرأ/ي أيضًا: صور | بالتجسيم.. نور جردانه تفضي لـ"شيكيم" بسرها

في ذلك الوقت، كانت سلطات الاحتلال تسهّل هجرة الفلسطينيين، وتمارس شتى سبل الضغط عليهم لطردهم خارج البلاد، لذلك قرر جورج الهجرة عند شقيقه في كندا. يقول: "سافرت في البداية إلى السويد لزيارة صديق سويدي تعرفت عليه في الناصرة. هذا الصديق فخور ببلده، قال لي: يجب أن تبقى هنا ومن المستحيل أن تغادر السويد أجمل بلد في العالم".

في السويد، أنهى جورج دراسة الاقتصاد الوطني، ثم درس الرياضيات الإحصائية، لكنه لم يستطع نيل الشهادة العيا، بسبب رفض أستاذٍ تمويل دراسته بحجة أنه "فلسطيني مخرب".

يُنوّه جورج أنه في بداية وصوله إلى السويد لم يكن هناك "نشاطٌ فلسطينيٌ واسعٌ ومنظم"، ولم تكن السفارات العربية تعمل لصالح القضية الفلسطينية، بل اقتصر العمل على الجهود الفردية. "من هنا أسستُ عام 1972 فرقة الكوفية، حتى أروي القضية الفلسطينية بواسطة الأغنية".

ويُبين أنه اعتمد على نفسه في كتابة كلمات الأغاني، ولم يأخذ من الشعراء الفلسطينيين، "كتبت عن دير ياسين، وعن شعور المرأة عندما يقتل ابنها. كتبت كلمات نابعة من الجرح الفلسطيني"، مضيفًا أن حبه للفن واعتياده على الأغنية الشعبية والفلوكلور الفلسطيني في الناصرة، والترتيل في الكنيسة، كانت الأسس التي انطلق منها.

استطاع جورج أن يجذب إلى الفرقة أصدقاءه في الجامعة من السويديين المؤيدين للقضية الفلسطينية "يساريين وتقدميين"، وصديقًا له من مدينة القدس.

وعن ذكريات الفرقة قديمًا يقول: "كنا نعرض صور (سلايدر) على خلفية المسرح عن معاناة الفلسطينيين خلال الغناء، ونقرأ أشعارًا لمحمود درويش وتوفيق زياد. كنا نغني حتى نظهر قضيتنا"، مبينًا أن عازفين يهود شاركوا مع الفرقة في فتراتٍ محددة، "لقد فرّقوا دائمًا بين اليهودية والصهيونية"، لكن هذا لم يمنع اتهامهم بأنهم "مخربون وعنصريون" في بداية الأمر.

تعرض أعضاء فرقة "الكوفية" في بداياتها لاتهامات بأنهم "مخربون وعنصريون"

يتحدث جورج عن ما وصفه "ضررًا" أصاب فرقة "الكوفية" وأوقف نشاطها لسنواتٍ بسبب منظمة التحرير، ما جعله يصفها قائلاً: "هم يقتلون العمل من كافة النواحي معنويًا واقتصاديًا".

اقرأ/ي أيضًا: "الدلعونا" طوعها الفلسطينيون للحرب والحب والجنس

ويشرح ذلك مشيرًا إلى حفلٍ أُقيم في تونس، وحظي بإعجاب السكرتير المالي للجامعة العربية، فقرر دعمهم، لكن منظمة التحرير رفضت منحهم إذنًا بالحصول على هذا الدعم بذريعة أنه "أحوج لهذا المال".

وتكرر مثل هذا الموقف في السويد عندما افتتحت المنظمة مكتبًا لها في العاصمة ستوكهولم خلال ثمانينات القرن العشرين. في تلك الفترة نظمت فرقة "الكوفية" حفلاً فنيًا حضره حوالي 1200 شخص. أعلنت الفرقة منذ البداية أن ريع الحفل سيذهب لصالح التبادل الثقافي بين الشعبين الفلسطيني والسويدي.

يقول جورج: "كانت لدينا رغبة بإرسال فنانين ومثقفين سويديين إلى فلسطين من أجل مشاهدة الواقع، حتى يتأثروا وينعكس عليهم عندما يرجعوا إلى السويد". حضر الحفل آنذاك فنانون كبار من السويد، حتى أن فنانًا شهيرًا من السويد تبرع بالغناء معهم في الحفل دون مقابل.

ويضيف أن مندوب منظمة التحرير اتصل به بعد الحفل طالبًا الأموال التي جمعها، لكنه رفض ورد عليه بأن الحفل كُتِب عنه في الصحف بأن ريعه سيذهب للتبادل الثقافي بين البلدين، لكن مندوب المنظمة أصرت على أخذ الأموال، فقرر الانسحاب من الفرقة.

تسببت منظمة التحرير بوقف نشاط فرقة "الكوفية" لسنوات

وتابع، "قتَلَنا مندوب المنظمة. مكاتب منظمة التحرير أضرت بالعمل لأنها تريد أن تعمل وحدها، وأن تُقرر وحدها".

قبل 8 سنوات تقريبًا، عاد جورج توتري لتفعيل فرقة "الكوفية"، وعاد معه بعض الأعضاء المؤسسين وقد ملأ الشيب رؤوسهم، إضافة لانضمام شبان جدد، لكن الجميع "موسيقيون محترفون" كما يقول، مبينًا في الوقت ذاته أن أعضاء الفرقة الـ12 يدفعون تكاليف السفر على حسابهم رغم التزاماتهم، والتكاليف العالية لهذه السفريات.

خلال هذه السنوات، سجلت فرقة "الكوفية" حوالي 50 أغنية عن القضية الفلسطينية في أربعة ألبومات. ومن أشهر أغاني الفرقة: لا للحرب، نار نار ع الصهيونية، ابنة فلسطين، موال، وأشهرها تحيا فلسطين، إذ حققت ملايين المشاهدات على موقع "يوتيوب"، وتُرجِمَت إلى عدة لغات.

تتبرع فرقة "الكوفية" بريع حفلاتها للفلسطينيين، فقبل ستة شهور -مثلاً- تبرّعت بريع حفلٍ لدعم قرية النبي صالح غرب رام الله، كما تبرعت بريع عدة حفلات لصالح الهلال الأحمر الفلسطيني، "لكن عندما نحتاج إلى الدعم لا يتوفر" قال جورج.

بداية العام الجاري، انتهت فرقة "الكوفية" من تسجيل أغنيتين للألبوم الجديد، وقد تكفل أعضاء الفرقة بتغطية ما نقص من تكاليف التسجيل، قبل أن تبدأ العمل لتسجيل 10 أغانٍ أخرى حتى يكتمل الألبوم، لكنها تحتاج لموازنة مالية.

يذهب ريع حفلات فرقة "الكوفية" لقرى ومؤسسات فلسطينية، لكنها لا تجد أي دعمٍ عندما تحتاجه

يُضيف، "أعضاء الفرقة كلهم من السويد، يتضامنون مع القضية الفلسطينية ويعملون بصمت، ولهذا السبب أنا أحب أن يقدر هؤلاء بسبب وقوفهم إلى جانبنا، والتعبير عن فخرنا بهم يشجعهم على الاستمرار، ولكن ما يجري هو العكس"، مؤكدًا أن الفرقة لا تحصل على أي دعم من السفارة الفلسطينية، وهذا ما أبلغه به المسؤول الثقافي في السفارة عندما تواصله معه سائلاً عن أي دعم يُمكن أن تقدمه.

اقرأ/ي أيضًا: كيف تطوّرت الأغنية الفلسطينية في قلب الأغنية الشعبية؟

وتابع، "لا نطالب سوى باحترام أعضاء الفرقة الذين يناضلون معنا بصمتٍ وتقديرهم وتشجيعهم، حتى يرى الآخرون أننا نحترم ونحب من يعمل معنا ويناصر قضيتنا (..) في حين أن السفارة الإسرائيلية في السويد توفر الهدايا وتدعم النشر في وسائل الإعلام حول كل عمل ولأي شخص يفعل شيئًا لإسرائيل".

لماذا لا تعود للسكن في فلسطين يا جورج؟ أجاب على هذا السؤال مؤكدًا أنه يحلم بالعودة إلى البلاد خاصة بعد أن تجاوز عمره (72 عامًا)، لكنه أوضح أنه في كل مرة جاء فيها لزيارة أقاربه؛ واجه مشكلة في ابتعاد الأصدقاء عنه وعدم الاختلاط به "خوفًا على مصالحهم" كما يعتقد، "حتى أن زوجة أحد أصدقائي من القدس قالت لزوجها: لا أحب أن يأتي جورج لزيارتها لأنه يعمل في السياسة"، لذلك يبقى في منزل شقيقته بالناصرة ثم يُسافر.

أصدقاء جورج في فلسطين يتجنبونه عندما يأتي إلى البلاد "خوفًا على مصالحهم" ولأنه يعمل في السياسة

تعرّض جورج للتوقيف في مطار اللد أثناء عودته لفلسطين قبل سنوات، رغم وجود تنسيق مسبق له من قبل السفارة السويدية في إسرائيل. يقول: "كنت برفقة جوقةٍ للغناء كي نحيي حفلاً في القدس، وعند توقيفي قاموا بالغناء في المطار، وحدث نوع من البلبلة، لذلك فقط تم توقيفي ساعتين دون أي أسئلة".

يُذكر أن جورج أبٌ لولد وابنتين، وجدٌ لثمانية أحفاد، يقول عن نفسه إنه "متفرغٌ للموسيقى والكتابة وجلسات التبادل الثقافي، وكذلك الجلوس مع الأحفاد، وفي أوقات الفراغ يُساعد ابنه في المطعم حيث يعمل". ويختم حديثه مؤكدًا أن قضية فلسطين بالنسبة إليه "قضية حُبٍ وعشق"، وأنه عمل كل هذه السنوات دون مقابل، أو شهادات تقدير من أحد، "فأنا أعمل من أجل الوطن حتى لو كنتُ في الغربة.


اقرأ/ي أيضًا: 

هل انهارت الأغنية الشعبية على يد "الفنانين الجدد"؟

بماذا تغنى أجدادنا "أيام البلاد"؟

فيديو | اليرغول والشبابة رفيقا الأعراس ورعي غنم