20-يوليو-2017

لم تعد مسألة مفهوم المثقف عصيّة على التفسير مؤخرًا، ولكن ما أضحى عصيًا هو دور المثقف في المجال العام، والذي بات يثير تساؤلات عدة. ولا تدّعي هذه المقالة قدرتها على تقديم قراءة سوسيو تاريخية لتطور وتشكلّ مفهوم ودور المثقف، ولكن ستحاول أن تبحث في تساؤل يتمحور حول ماهيّة دور المثقف الأكاديمي أو الجامعي عمومًا، والفلسطيني في الجامعات الفلسطينية على وجه الخصوص واقتران ذلك بالشأن العامّ.

سياسات السلطة أسهمت في عزل الجامعات، وانعكس ذلك على دور المثقف الذي ترك الشأن العام دونمّا تدخل إلا في حيّز المنظومة المصلحية

لعلّ حجم المنظومة المصلحية التي تجتاح الحالة الفلسطينية منذ أوسلو في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عاظّمت من مشكلة المثقف الجامعي، فأوقعته سطوّة بيروقراطية السلطة حينًا وهيمنة الأيديولوجيا الضيقة ومشاريع المؤسسات غير الحكومية عديمة الجدوى حينًا آخر، واختارت قلةٌ الترفع عن التدخل بالشأن العام بعضهم أصطفى الصمت خيارًا، وآخرون كسروا استثنائية المنظومة بالبقاء خارجها، وقد عمّق ذلك من تغييب دور المثقف الجامعيّ في البحث عن بديلٍ تحرّري وطنيّ. وهذا يشبه ما قامت به الدول العربية عقب الاستقلال، فقد عملت هذه الدول على استقطاب هولاء المثقفين بشعاراتٍ وطنيّةٍ رنانة، وبالترويج لدعاية الدولة كقاطرةٍ للتنمية، وقد لاقى ذلك رواجًا لدى هذه الفئة من المثقفين، ما ساهم مع مرور السنوات في تراجع دور الجامعات كمؤسسات معرفية من جهة، وإلغاء التعددية الحزبية وتبعية الاتحادات والنقابات لبيروقراطية الدولة، إضافة إلى تدهور مكانة الحريات المدنية والسياسية وتراجع تأثير الحركات الاجتماعية مقابل استبداد السلطة الحاكمة. وحتى عندما أضحت معالم المرحلة تدخل صيرورة تاريخية بآفاق جديدة، انكفأ المثقف الجامعي عن التدخل في الشأن العام وحافظ على نفسه خارج التأثير الشعبي إلّا ببعض الاستثناءات.   

فمن التحولات الأساسية التي أفرزتها أوسلو أنها عملت على خلخلة المفاهيم الوطنية مقابل فرض تعاون بمنطق السيطرة والتبعية للدولة الاستعمارية واقتصادها، في إطار كسب الدعم والتأييد لبيروقراطيتها، فالجامعات الفلسطينية التي تأسست مطلع سبعينيات القرن الماضي أتت في البداية بناءً على حاجة المجتمع لمؤسسات وطنية في الأرض المحتلة، لتُشكّل بداية حقيقية لمؤسسات لها دور في تحديث المجتمع وإنتاج وتقديم المعرفة وتنشئة الأجيال على القيم الوطنية، لكن هذه الجامعات كغيرها من المؤسسات لم تكن منفصلةٍ عن أزمة الوضع القائم، فسياسات السلطة ساهمت في عزل الجامعات عن الظرف الفكري والسياسي والاجتماعي الذي أتت من أجله كوليدة لحاجة المجتمع، وقد انعكس ذلك على الدور الرئيس للمثقف الجامعي الذي ترك الشأن العام دونمّا تدخل إلا في حيّز المنظومة المصلحية.

لم يكن مفهوم المثقف الأكاديمي أو الجامعي بعيدًا عن ارتدادات المعضلة الراهنة، فتفسير المفهوم يحيلنا إلى تناقضات معيارية عدة، فهل نحن نبحث عن مثقف جامعي نحكم عليه انطلاقًا من درجته العلمية؟ أم الاختصاص؟ أم جودة المنشورات؟ أم مستوى الأداء التدريسي؟ أم الخبرة والمهارة؟ أم بعدد الطلبة في شعبته الدراسية؟ لا شك أننا في هذه المقالة لا نبحث عن المثقف الأكاديمي "الساكن" المشتغل في حقل المعرفة، إنما نبحث عن المثقف الأكاديمي "المقاوم" والذي يستثمر في تخصصه المعرفي ويحيط بعلومٍ في تخصصاتٍ أخرى، ويستخدم مهاراته العلمية والبحثية ليؤدي دوره باتخاذ موقفٍ نقديٍ من الشأن العام، وفي ذلك مقاربات عديدة لمثقفين جامعيين انتفضوا ناقديين بانتاجهم المعرفي للشأن العام.

وقد مايز إبراهيم الدقاق بين قصديّن في حكمه على التجربة الفلسطينية، الأول أسماه "الصمود الساكن" ويرتكز على توفير منح ومساعدات للحفاظ على وجود السكان والذي أدّى إلى تعميق التبعية للمنظومة الاستعمارية،أما الثاني فقد سُمّي بـ"الصمود المقاوم" والذي عمل لفترة وجيزة على توفير شبكة ضمان اجتماعي للسكان على الأرض، لتعزيز صمودهم ضد النظام الاستعماري القائم. ولا شك أننا لا نبحث عن نموذج مغاير في إطار المثقف الجامعي سواءً على المستوى الفكري أو الثقافي، فأزمة الوضع القائم في الجامعات وفي المجتمع باتت تستوجب أن يرى المثقف نفسه في عدسة اتخاذ موقف من هيمنة السلطة السياسية وهيمنة الأيديولوجيا، وأن ينخرط نقديًا في الشأن العام داخل وخارج الجامعة.

إنّ الأزمة التي تجتاح الحالة الفلسطينية بنظاميها السياسي والاقتصادي الواهن وتنظيماتها السياسية المترهلة، تستدعي بأن يطرح المثقف الجامعي بدائل وحلول بإطارٍ عام وعلى مسافةٍ من السلطة القائمة، وأن ينتفض ضد سياسات مؤسستها الأمنية وبيروقراطيتها التي باتت تُعد عائقًا أمام أيّ تغيير في الوضع القائم، وذلك على شكل حركة للمثقفين الجامعيين. ولهذا فإن الدور الرئيسي للمثقف الجامعي كمنخرط في حقل المعرفة وكقادر على التأثير في المجتمع، يتطلب منه أن يخرج من الخلط المفاهيمي لدوره، فلا مثقف جامعي داخل أسوار الجامعة دون اشتباك مع الشأن العام المجتمعي، ولا مثقف جامعي خارج الجامعة ويتماهى مع الوضع القائم. لذا فموقف المثقف الجامعي اليوم يستلزم انحيازه لحرية وتحرر الفكر والإنسان، وكفاحه لحماية الجامعة والطلبة والمجتمع من هيمنة السلطة/ات والفصائل والجهوية والعشائرية، وأن يتخذ موقفًا نقديًا من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإلا لن يجد حلًا لمعضلته.


اقرأ/ي أيضًا:

تعامل السلطة مع الإعلام.. محاولة لفهم الجنون!

قصة سلخ الدروز عن الوطنية الفلسطينية

روابي المدينة: قلق خصاء وتماهٍ.. وأشياء أخرى