14-سبتمبر-2015

مظاهرة في لندن 2014 (الإندبندنت)

يُبرز التعاطف العالمي مع اللاجئين السوريين، بصورة أو بأخرى، حيوية المجتمعات الأوروبية مقارنةً بتقاعس المجتمعات العربية ونخبها، التي تبدو وكأنها قد دخلت في حالة يأس مزمنة من كل قضايانا. والمفارقة الحادة تقدمها وسائل التواصل الاجتماعي على شكل رسائل وكتابات وهاتشتاغات وملصقات.. إلخ، تشكر الدول الأوروبية، ألمانيا على وجه الخصوص، في حين تهجو الدول العربية التي أغلقتها الدول العربية، بالتعاون مع مجتمعاتها التي تواطأت بالصمت.

تشهد أوروبا وعيًا جديدًا تجاه قضايا العالم العربي، كان قد بدأ بالتشكل مع احتلال العراق

الثابت، كما تقول صور استقبال اللاجئين السوريين في أوروبا، أن هناك انقلاباً في المفاهيم والقيم والمبادئ التي تقود سلوك المجتمعات الأوروبية المعروفة بالفردانية والعزوف عن أيّ نقاش ذا بعد سياسي، لا سيما في ما يخص قضايا المنطقة. والثابت أيضًا في الحالة العربية، قديمًا وحاليًا، غياب دور المنظمات والأحزاب التي كانت تشكل الحدود الدنيا للقيم والمبادئ لفعالية مجتمعاتنا، إذ عجزت، عبر خمس سنوات من عمر الثورة السورية، عن تقديم أية شيء لسوريا، تمامًا مثلما عجزت في السابق عن تقديم أي شيء للقضية الفلسطينية.

ولأنه لا يمكن فصل ما هو اجتماعي عما هو سياسي، لا سيما في غياب شرط الحرية، لا يمكن أن ترى مجتمعات فاعلة، مثل هذه التي في أوروبا "الكافرة"، حسب أبجديات التيار الإسلامي الأبوي، أو أوروبا التي لا تعرف خصوصية المنطقة، حسب أبجديات النظام الأبوي العربي.
 
ويتضح هذا الفرق أكثر في حركة المقاطعة ونموها، حينما أغلق المتظاهرون، في العدوان الأخير على غزة، الشوارع والمحلات في بريطانيا. بالطبع لم تكن لمنظمة التحرير الفلسطينية التي أصبحت امتدادًا للنظام العربي المتهالك، أو للتيار الإسلامي، أي يد في إخراج المتظاهرين الى الشوارع. ولو كانت حركة المقاطعة ذات جسم سياسي ونقابي معروف، لما كان لها إخراج متظاهرين بهذه الصورة وهذا الزخم أيضًا. من فعل ذلك شباب مواقع التواصل الاجتماعية وشباب الجامعات، مصحوبًا بوعي حاد لخزي المواقف الأوروبية من القضية الفلسطينية والقضايا العربية. ولا شك أن هذا الوعي الحاصل في أوروبا تجاه قضايا العالم العربي، كان قد بدأ بالتشكل مع احتلال العراق، ويبدو أنه الآن بدأ يأخذ شكل لوبي ضاغط.

ولكي نرى الصورة بشكل أوضح، لا بدّ من النظر إلى حركة المقاطعة لإسرائيل، التي تأخذ مدى متصاعدًا يومًا بعد يوم، حيث يبيّن يحجم المشاركة فيها أن هناك نوعًا من غعادة النظر في مشروعية إسرائيل أوروبيًا، بمعنى أدق؛ هناك وعي جديد بدأ يتشكّل في فهم جوهر مشكلة المنطقة. 

تستمد حركة المقاطعة قوتها من كونها فكرة أكثر منها جسما سياسياً أو تنظيما سياسياً، إذ بدأت على يد مجموعة من أساتذة الجامعات في فلسطين، ثم انطلقت إلى الخارج، بعد أن أمسك بها الشباب العربي من أبناء المهاجرين في أمريكا وأوروبا، ممن لا يتكلمون العربية بالأساس. هؤلاء صنعوا فرقًا، تمكنوا فيه من الوصول والاتصال بالقوى السياسية والاجتماعية الفاعلة في تلك المجتمعات. حيث أصبحت الحركة معهم جزءًا من الكفاح البشري المشترك ضد الإمبريالية والعولمة والاستبداد، أو سمه ما شئت. 

تستمد حركة المقاطعة قوتها من كونها فكرة أكثر منها جسما سياسياً أو تنظيما سياسياً

يضاف إلى ذلك، أن التجربة قابلة لتحمل أفكار عديدة، لا تكتفي بمقاطعة إسرائيل فقطـ، بل يمكن أن تناصر كل أنواع النضال والكفاح الإنسانيين، بما يصل إلى حدود النشاط لأجل البيئة وحماية الحيوان، وذلك بما حملته من أبعاد حداثية، تخص تطور المجتمعات في عالم بات تتحكم به الأفكار، وليس القوة العسكرية، كما يظن الحرس القديم في النظام العالمي. فهي قادرة على استعمال لغة عصرية يفهمها مجتمع ما بعد الحداثة.

وكونها كذلك، أي فكرة، استطاعت أن تترك باب الاجتهاد للأفراد مفتوحًا، بعيدًا عن أيديولوجيا الأحزاب العربية المتكلسة، أي بعيدًا عن التأطير. ويمكن ملاحظة ذلك في عدم استخدامها كمفهوم نظري مطلق، بل يستند نشطاؤها إلى مبادئ التدرج والاستدراج والمراكمة في إقناع الجامعات والشركات في مقاطعة إسرائيل. 

إنّ حركة المقاطعة التي استطاعت أن تضع فلسطين في صورتها التي فشلت الثورة الفلسطينية في أن توصلها في السابق، ذاهبةٌ لتشكيل لوبي رأي عربي ذي شكل أخلاقي صميم في الغرب، والمفارقة أن يأخذ شكله الأقوى في بريطانيا، بما في ذلك من دلالة رمزية لدورها في الكارثة الفلسطينية. وربما ستلعب الحركة دورًا عالميًا مميزًا، لو أنها اشتغلت على خلق حوار ما مع أفواج اللاجئين السوريين.

كل ذلك يحدث في عالمٍ تتآكل فيه صورة إسرائيل في الغرب، بينما تتقوّى في محيطها الذي كان نابذًا لها، عبر علاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية مع النظم العربية، بحيث يمكن القول إن إسرائيل باتت تتمدّد عربيًا.