31-مارس-2024
الممر البحري قبرص/ غزة.. حصان طروادة نحو مخططات واسعة

في خطاب حالة الاتحاد في الثامن من آذار/ مارس للعام 2024، أعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، جو بايدن، أنّه أعطى أوامره للجيش الأمريكي بإنشاء رصيف مائي مؤقت في غزة، ما سيتيح إيصال 2 مليون وجبة يوميًا. وصرّح البنتاغون في اليوم التالي بأنّ ألف جندي أمريكي سيعملون في إنشاء الرصيف.

وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير، قد صرّحت عقب زيارتها لميناء مدينة لارنكا في قبرص الجنوبية، بالقول: "إننا قريبون من افتتاح الممر البحري "قبرص/ غزة". وفي بيان مشترك، أعلنت الجهات المساهمة في الخطة "أنّ الوضع الانساني في غزّة كارثي، لهذا السبب تعلن المفوضية الأوروبية وألمانيا واليونان وإيطاليا وهولندا وقبرص والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة والولايات الأمريكية المتحدة اليوم عزمها فتح ممرٍّ بحري لتوصيل مساعدات إنسانية إضافية تشتد الحاجة إليها". وتبع ذلك إعلان بعض الدول انضمامها للمبادرة ومنها اليابان على لسان وزيرة خارجيتها كاميكاوا يوكي.

تعود مخططات إنشاء ميناء وممر بحري على شواطئ غزة إلى مطالب فلسطينية قديمة منذ تفاهمات أوسلو، غير أن المشروع المقترح حاليًا يحمل أبعادًا جيوسياسية وأمنية وحقوقية خطرة وحسّاسة

تعود مخططات إنشاء ميناء وممر بحري على شواطئ غزّة إلى مطالب فلسطينية قديمة منذ تفاهمات أوسلو عام 1994. كما أعيد طرح المشروع عدة مرّات قبل أن يطرح بشكله الحالي. ففي العام 2014، وعقب صدور عدة تقارير أحدها تقرير للمرصد الأورومتوسطي أفاد بأن مخاطر إنسانية كارثية قد تنتج بسبب الحصار المستمر على غزة. إلّا أنّ المشروع المقترح في الوقت الحالي يحمل أبعادًا جيوسياسية وأمنية وحقوقية خطرة وحسّاسة.

من الناحية اللوجستية وبحسب تصريح وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" سيعمل 1000 جندي أمريكي على إنشاء الرصيف المائي على شاطئ غزة في مهمة تمتد لستين يومًا منذ الثامن من آذار/ مارس، مؤكدين في تصريحهم أنّ أقدام الجنود الأمريكيين المضطلعين بالمهمة لن تطأ برّ غزة.

ويتكوّن النظام من رصيف مائي عائم على بعدد 600 متر من شاطئ غزة “maritime offshore floating pier” يستقبل شحنات المساعدات من قبرص، بالإضافة إلى جسرين مائيين عائمين ”floating maritime causeway” بطول 550 مترًا لكل واحد، يربطان الرصيف بالشاطئ، ومن خلالهما يتم نقل الشحنات من الرصيف إلى الشاطئ.

باركت "إسرائيل" هذه المبادرة، بشرط أن يخضع التفتيش والفحص الأمني للمعايير والمواصفات الإسرائيلية 

تعمل المنظمة الإسبانية غير الحكومية الأذرع المفتوحة “Open Arms” على توفير البواخر، حيث انطلقت الباخرة الأولى التابعة لها في 12 آذار/ مارس من قبرص لغزة، كما تعمل منظمة المطبخ العالمي المركزي “World Central Kitchen" الخيرية والتي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًّا لها، على إنشاء أكثر من 60 موقعًا موزَّعين على طول القطاع وعرضه لإنتاج وتوزيع الطعام. كما تعمل الولايات المتحدة على استئجار ميناء لارنكا القبرصي لخدمة هذه المبادرة. باركت "إسرائيل" هذه المبادرة، بشرط أن يخضع التفتيش والفحص الأمني للمعايير والمواصفات الإسرائيلية. كما تورد بعض الأقاويل، بأنّ المساعدات الإنسانية سترسل أوّلًا إلى ميناء أسدود ليتم فحصها وتدقيقها إسرائيليًا، ثمّ تنقل تحت سيطرة البحرية الإسرائيلية والمسيّرات التابعة للجيش الإسرائيلي إلى قطاع غزّة. كما أنّ عمليات الشحن البحري من ميناء لارنكا إلى الرصيف المائي ستخضع لرقابة سلاح البحرية والأقمار الصناعية الإسرائيلية.

وبحسب مجموعة من الخطط المسربة والتصريحات المعلنة والإشارات، فثمة اعتقاد بأنّ هذا المشروع ينطوي على مجموعة من الأهداف التكتيكية والاستراتيجية التي تخدم المخططات الصهيونية والمطامع الأمريكية في المنطقة.

على مستوى الأهداف التكتيكية، وبالتوازي مع البدء بتنفيذ المخطط أطلقت إدارة بايدن حملة علاقات عامة موسّعة لغرض استثمار المخطط في تبييض صورة بايدن والحزب الديمقراطي، وفي محاولة لغسل أيديهم الملطخة بدماء الإبادة الجماعية. أمّا الهدف الثاني فيذهب لصالح خطط بنيامين نتنياهو في إطالة أمد الحرب وبدء العدوان على رفح، إذ واجهت خطط نتنياهو لبدء العدوان على رفح التي يتكدس فيها حوالي مليون ونصف مليون فلسطيني معظمهم نزحوا من مناطق مختلفة، معارضة أمريكية صريحة، إذ من المتوقع أن يساهم العدوان على رفح في خلق كارثة إنسانية واسعة يروح ضحيّتها الآلاف، الأمر الذي لا يمكن استيعابه أمريكيًا في ظل ما تتعرّض له إدارة بايدن من ضغوط أمريكية داخلية ودولية مع احتمال التعرّض لمحاكمات محليّة ودولية نتيجة التورط في أفعال إبادة جماعية، وكذلك في ظل تضرر صورة الولايات المتحدة في المحافل الدولية ولدى شعوب العالم.

لا تنحصر الأهداف من هذا المخطط بأبعادها التكتيكية قصيرة المدى بل تتعداها لمجموعة من الأهداف الاستراتيجية

ورغم التحفظات والشروط الأمريكية فإنّ نتنياهو يصر على بدء العمليات العسكرية في رفح بعد أن أعلن منذ أشهر أنّ مدينة رفح والسيطرة على معبر فيلادلفيا هي عناصر حاسمة في الحرب. إنّ تنفيذ هذا المخطط من شأنه تسهيل إخلاء السكّان من رفح وبالتالي خفض فاتورة الدم التي من المتوقع أن تنتج نتيجة بدء عدوان واسع عليها، كما أن العدوان على رفح في منظور مخططات نتنياهو أمرٌ لا يمكن التنازل عنه، ما اضطره للرضوخ جزئيًا إلى مراعاة العوامل الانسانية قبل تنفيذ العدوان.

الهدف الاستراتيجي الأول: إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني في غزة مع إعادة هيكلة إدارية كاملة

تساهم الممارسات الإسرائيلية المدعومة أمريكيًا، من أفعال الإبادة الجماعية والتدمير الشامل لكل مقومات الحياة وعناصر البنية التحتية ولكافّة المؤسسات والأجسام مع التضييق الواسع على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) وعدم تجديد تصاريح العمل لفرق المنظمات الدولية الأخرى، إلى ممارسات الترهيب والتخويف والتنكيل المستمرة بالإضافة إلى التجويع والتعطيش والحرمان من الخدمات الطبية والأدوية الأساسية، في تحويل غزة ذات التاريخ الممتد لقرون طويلة ومجتمعها الحيوي وصعب المراس والمبدع والصامد والمقاوم، إلى مساحة جغرافية عليها سكّان، أي تحويلها إلى مادة جغرافية وديمغرافية خام قابلة للتشكيل والتصنيع والهندسة بسهولة، وتحويل قضيّة سكّان غزة من قضية سياسية حقوقية إلى قضية إنسانية محض.

ويرتكز هذا التوجّه أساسًا على عدة عناصر. الأول: هندسة وكيّ الوعي الجمعي في غزّة من خلال تجويع الناس بهدف تركيعهم، وذلك بأن يتم احتكار توفير وتوزيع الطعام والحاجيات الأساسية من خلال الجيش الإسرائيلي، في رسالة عميقة موجهة للوعي الغزّاوي، أنّ طعامكم وشرابكم لن يكون إلّا بيدي من أبادكم وقتلكم، ما يضع الغزّاوي أمام خيارين، إما الركوع أمام الجوع بالقبول بهذه الحالة الجديدة وإمّا الموت من الجوع، الأمر الذي سيشرعن أيضًا بقاء الجيش الإسرائيلي في غزة. سيتم ترسيخ هذا التوجه وبحسب خطط نتنياهو من خلال فرض مناهج تربوية وتعليمية جديدة مناهضة لكافّة أشكال الارهاب بحسب زعمه.

الثاني: إعادة هيكلة إدارية شاملة للقطاع، إذ وبحسب تصريحات نتنياهو وخططه، فهو يشترط لليوم التالي للحرب أن لا تخضع إدارة غزة للسلطة الفلسطينية ولا لحماس ولا لأي هيئة أو جسم أو جهة مقربة من حماس، وفي نفس الوقت يتم العمل وبشكل ممنهج على إقصاء وإبادة مؤسسات ومنظمات العمل الأهلي، وإنهاء أدوار المؤسسات والمنظمات الدولية ذات البعد السياسي مثل "الأونروا"، ومن الجهة الثانية تعمل "إسرائيل" على تشكيل أجسام محلية مشبوهة وتموّل وتدعم تشكيلات عسكرية من غزّة تساهم في خلق الفوضى وضرب السلم الأهلي وفرض السيطرة بما يخدم المخطط "الإسرائيلي".

وتبدو من الإشارات المبدئية، رغبة نتنياهو بإبقاء غزة تحت الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر، بعد تقسيمها، وكذلك إفساح المجال لمؤسسات خيرية خاضعة بالكامل لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية. ويجدر الإشارة هنا إلى أنّ محاولات تفكيك الأونروا تهدف إلى إجهاض حق العودة الفلسطيني، وكذلك إلى تحويل المهجرين واللاجئين والنازحين الجدد من غزّة إلى لاجئين إنسانيين وليسوا لاجئين سياسيين، بالتالي عدم تعريفهم في إطار القرارات الدولية بما فيها قرار 194 والذي يقر بحق العودة.

الهدف الاستراتيجي الثاني: غزة كشبه جزيرة معزولة

تُظهر ملامح الخطط والممارسات الإسرائيلية في غزّة وبعض التصريحات الرسمية أيضًا، وجود رغبة إستراتيجية عند "إسرائيل" لتحويل غزّة إلى شبه جزيرة معزولة، وذلك من خلال إغلاق جميع المعابر والحدود مع مصر ومع "إسرائيل"، وإنشاء مناطق أمنية عازلة، وتقسيم غزة إلى جزئين شمالي وجنوبي على أقل تقدير، وبالتالي عزل غزّة بالكامل من جهات الشرق والشمال والجنوب، أي عزلها الكامل عن عمقها الجيوسياسي الفلسطيني والعربي وكذلك عزلها جغرافيًا عن "إسرائيل"، على أن تبقى نافذة غربية واحدة لغزّة على العالم، نحو قبرص الجنوبية وهي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي.

ومن شأن ذلك تعزيز الأمن الإسرائيلي وإجهاض احتمالات مستقبلية لأي هجمات من غزة على "إسرائيل"، وكذلك فكُّ الارتباط الحدودي والجغرافي بين غزة ومصر، الأمر الذي سيساهم في رفع الأعباء والمسؤوليات عن النظام المصري تجاه غزة، وبالتالي خفض حدّة الاحتجاجات في الشارع المصري ضد النظام وسياساته اتجاه غزة، ما يعزز الأمن القومي المصري وبالتالي الأمن القومي "الإسرائيلي". 

الهدف الاستراتيجي الثالث: التهجير الموضوعي

وأقصد بالتهجير الموضوعي، خلق الظروف الموضوعية الكاملة التي تدفع سكّان غزّة عنوة وقسرًا نحو الهجرة والهروب. يعزز هذا الطرح، تصريحات معلنة من نتنياهو بربطه للممرّ البحري (قبرص/ غزة) بأهدافه بالتهجير.  ويدعم هذا الأمر توارد أخبار عن قيام جماعات يهودية – صهيونية بجمع الأموال لأغراض إنشاء مجمعات سكنية تستقبل اللاجئين من غزّة في بعض دول شرق أوروبا، ولا يمكن فصل الهدف الإسرائيلي بالتهجير الموضوعي الجزئي عن توجهات أمريكية – إسرائيلية معلنة قديمة جديدة بتفكيك وكالة غوث وتشغيل اللاجئين.

الهدف الاستراتيجي الرابع: حقول الغاز

منذ عام 2012، ارتفع الاهتمام بمنطقة شرق المتوسط عقب اكتشاف حقول كبيرة للغاز الطبيعي. تخضع خمسة من حقول الغاز في البحر المتوسط للسيادة "الإسرائيلية"، وهي حقول: ليفياثان وهو الأكبر، وتمار ودليت وكاريش ونميم.

أما مصر فتملك خمسة حقول غاز اكتشفت خلال السنوات الماضية، وهي حقل ظهر، الذي تم الإعلان عنه عام 2015، في منطقة امتياز شروق في المياه العميقة في البحر المتوسط، وتقدر احتياطات الحقل بنحو 30 تريليون قدم مكعّب من الغاز الطبيعي، وبشكل رئيسي تشغّله شركة "إيني" الإيطالية. وحقول شمال الإسكندرية في البحر المتوسط، وتضم حقول تورس، وليبرا، وفيوم، وجيزة وريفين، وتتجاوز الاحتياطات 5 تريليون قدم مكعب، وتشغله بشكل رئيسي شركة "برتش بتروليوم" البريطانية. وحقل نرجس، والذي أعلن عن اكتشافه في بداية العام 2023، باحتياطات مبدئية معلنة بحوالي 3.5 تريليون قدم مكعب، وتشغله بشكل رئيسي شركة "شيفرون" الأمريكية. وحقل نورس، في منطقة الدلتا، وأعلن عن اكتشافه عام 2015، بإجمالي احتياطي حوالي 2 تريليون قدم مكعب، وتشغله بشكل رئيسي شركة "أيوك" التابعة لشركة "إيني" الإيطالية. وحقل أتول، اكتشف عام 2015، ويقع في منطقة امتياز شمال دمياط البحرية، شرق دلتا النيل في البحر المتوسط، باحتياطات تقدر 1.5 تريليون قدم مكعّب، وتشغله بشكل رئيسي "برتش بتروليوم" البريطانية.

هذا بالإضافة لحقل "غزة مارين" الفلسطيني، والذي اكتشف نهاية تسعينات القرن الماضي، ولم تمنح فلسطين صلاحية الاستخدام بعد، ويقدر الاحتياطي 1.1 تريليون قدم مكعب. وفي إطار مجموعة الخطوات بين "إسرائيل" ومصر والسلطة الفلسطينية والخاصة بتعزيز تنمية الاقتصاد الفلسطيني، أمر نتنياهو في حزيران 2023، قبل أربعة أشهر من الطوفان، بالبدء بمشروع تطوير حقل "غزة مارين".

إنّ وجود هذا الحجم من احتياطي الغاز والثروات الطبيعية في المنطقة، يشجع الولايات المتحدة على الاستثمار جيو-سياسيًا وبكافّة الأشكال الإمبريالية الممكنة نحو الحفاظ على سيطرتها في المنطقة، وتعزيز حصصها من ثرواتها. إذ ازدادت أهمية الغاز بالنسبة للولايات المتحدة والغرب عقب الحرب الروسية الأوكرانية وأثرها على تعطيل سلاسل إمداد الغاز لعدة دول على رأسها دول أوروبية.

الهدف الاستراتيجي الخامس: الطريق الهندي – الشرق أوسطي الأوروبي

في العاشر من أيلول/ سبتمبر للعام 2023، أي قبل "طوفان الأقصى" بأقل من شهر، ومن خلال قمة العشرين المنعقدة في الهند، أعلنت السعودية والولايات المتحدة والهند والإمارات وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي، توقيع مذكرة تفاهم لغرض تنفيذ مشروع ممر اقتصادي جديد يربط الهند بأوروبا مرورًا بالشرق الأوسط على أن يكون ميناء حيفا الخاضع للسيادة "الإسرائيلية" ميناءً مركزيًا للخط التجاري الجديد.

ازدادت أهمية هذا المشروع مع الحرب الروسية الأوكرانية وجفاف مياه قناة بنما، كما ارتفعت أهميته بشكل ملحوظ بعد الحصار الذي فرضته جماعة أنصار الله - الحوثي في اليمن على مياه البحر الأحمر ومضيق باب المندب. يأتي هذا المشروع الضخم ضمن خطط اقتصادية وجيوسياسية واسعة تحاول من خلالها الولايات المتحدة و"إسرائيل" والقوى الغربية التقليدية، مواجهة مخططات الصين وروسيا وقوى شرقية وجنوبية صاعدة لإعادة تشكيل النظام العالمي من نظام القطب الأوحد الخاضع للهيمنة الأمريكية المطلقة نحو نظام متعدد الأقطاب، وبالنسبة للولايات المتحدة والغرب و"إسرائيل"، فإنّ تنامي نفوذ الصين وروسيا ودول أخرى يهدد هيمنتها المعولمة ويقوّض مصالحها الاستراتيجية على مستوى الكوكب.

يتم تسويق وتنفيذ هذه المخطط تحت كارثية المجاعة في غزّة وضرورة إدخال المساعدات الإنسانية بأسرع وقت، مما يضعف أوراق أطراف المقاومة في مواجهة هذا المخطط. فتحت حساسية الاعتبارات الإنسانية الأساسية في حماية الناس وإطعامهم يتم تمرير أكثر المخططات تهديدًا لحقوق فلسطينيي غزة بالسيادة وتقرير المصير والعودة والأمان والحياة.