13-نوفمبر-2016

صورة علوية لقلعة هيرودوس في بيت لحم

بشوارعها القديمة وأزقتها العتيقة؛ تتربع مدينة بيت لحم الوادعة على مجموعة من الجبال، تطل من خلالها على البحر الميت ومدينة القدس. اعتاد الناس زيارتها لمكانتها الدينية والتاريخية، ففي القلب منها كنيسة المهد التي يُعتقد أن السيد المسيح عيسى عليه السلام ولد فيها، لكنها إضافة لذلك تحوي الكثير من الأماكن التي تستحق الزيارة.

سنصحبكم في جولة سياحية إلى أبرز المعالم التاريخية في بيت لحم مع تفاصيل وروايات ربما تقرأونها لأول مرة.

قلب المدينة "كنيسة المهد"

ما إن تقترب من نهاية "طريق الحجاج" المسمى اليوم "شارع النجمة" حتى تمثل كنيسة المهد أمامك بحجارتها القديمة وساحتها التي شهدت العديد من الأحداث التاريخية والكرنفالات الميلادية على مدى سنوات طوال.

بنيت الكنيسة فوق المغارة التي تشير الروايات التاريخية إلى أن العذراء مريم ولدت فيها ابنها المسيح، وذلك بأمر من الملكة الرومانية هيلانا في القرن الرابع الميلادي؛ وتحديدًا في عام 324 ميلادي، في عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين، ثم أعيد بناء الكنيسة مرة أخرى في القرن السادس الميلادي من قبل الإمبراطور جوستنيان.

برك سليمان.. تحفة هندسية معقدة

ليس بعيدًا عن كنيسة المهد وتحديدًا إلى الغرب منها ببضعة كيلومترات، تقع برك سليمان؛ وهي ثلاث برك مائية، بنيت في الفترة الهيلانيستية (اليونانية)، كما يروي وائل حمامرة مدير دائرة الإصدارات والنشر في وزارة السياحة لـ "ألترا فلسطين"، أي في القرن الأول قبل الميلاد، وأجريت لها العديد من الترميمات في بداية الفترة الرومانية.

ويقال إن البرك كانت اثنتين فقط، وأن البركة الثالثة أنشئت في الفترة المملوكية، وهي عبارة عن نظام مائي معقد وهام تاريخيًا، لتزويد مدينتي القدس وبيت لحم بالمياه حتى فترة الاحتلال البريطاني أوائل القرن الماضي، حيث كانت تجلب المياه من منطقة العروب ومناطق شمالي سعير، عبر قناتين إلى البرك، ومن ثم إلى قناتين في القدس تسميان القناة العليا والقناة السفلى.

لم تسلم هذه البرك والقنوات من اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي، الذي دمّر مئات المترات من قنوات تغذية البرك بعد مصادرة أراضي في منطقتي "عصيون" و"إفرات". ويمكن للزائر رؤية ما تبقى من هذه القنوات وتتبع مسارها لمئات الأمتار.

في بيت لحم برك مياه يعود تاريخها للعهد اليوناني أقيمت على مبدأ هندسي معقد يعمل بالجاذبية الأرضية 

وكانت هذه القنوات تعتمد على مبدأ هندسي يعمل بالجاذبية الأرضية، فالمناطق الجنوبية التي تغذي البرك بالمياه ترتفع عن سطح البحر حوالي 900م تقريبا، في حين ترتفع برك سليمان عن سطح البحر 790م، كما ترتفع القدس عن البحر حوالي 750م، ما يعني أن المياه ستجري في تلك القنوات دون توقف.

 

الحامية العسكرية العثمانية "قلعة مراد"

قلعة عثمانية يعود تاريخها إلى القرن السابع عشر، بُنيت بالقرب من برك سليمان لحماية مصادر المياه فيها، وحماية الطريق التجاري الذي يربط مدينة القدس بالخليل.

عرفت باسم قلعة مراد نسبة إلى السلطان العثماني مراد الرابع، بينما يشير النقش الموجود على مدخلها إلى أن بانيها هو السلطان عثمان الثاني في 1617، وسبق السلطان مراد في الحكم.

وكانت القلعة تشتمل على مسجد وخمسين غرفة لسكن الجنود، وتحتوي حاليا على متحف "قلعة مراد" الذي يروي حكاية الحضارات والعصور التي سكنت أرض كنعان منذ أكثر من 4 آلاف سنة قبل الميلاد وحتى العصر الحديث.

 

قلعة "هيرودوس"

نتجه جنوبًا لنجول في موقع أثري قديم كان شاهدًا على أحداث تاريخية غيّرت وجه المنطقة برمتها، إنه جبل هيوديون. وهو موقع روماني أسس في الأصل بسبب وقوع معركة في تلك المنطقة انتصر فيها القائد الروماني من أصل عربي هيرودوس، فخلَّد انتصاره ببناء قلعة مخروطية الشكل في تلك المنطقة، وتحتوي على أربعة أبراج على أطرافها، إضافة إلى قصر للحاكم الروماني وحمامات ونظام مائي وحدائق ذات أروقة معمدة، حيث كانت الأسرة الحاكمة تستجم في هذه القلعة.

يسيطر الاحتلال الإسرائيلي حاليًا على هذا الموقع، ويعمل على تسويقه كموقع أثري إسرائيلي، ما انعكس سلبا على تطويره وعلى السياحة بشكل عام. كما أن هذه السيطرة تحرم السكان المحليين من الاستفادة من هذا المكان؛ كإنشاء مرافق سياحية وتشجيع الصناعة السياحية وتطوير المواصلات.

نعود إلى قصة القائد هيرودوس، وهو أدومي عربي يرجع أصله إلى جنوب فلسطين، وفي مرحلة من المراحل التاريخية وتحديدًا في القرن الثاني والقرن الأول قبل الميلاد، قام اليهود بتهويد سكان المنطقة؛ حيث كانوا تحت الحكم اليوناني وتمردوا عليه واحتلوا العديد من المدن، وأجبروا السكان المحليين الذين يدينون بالديانة الوثنية على اعتناق الديانة اليهودية.

فكان هيرودوس من تلك الفئة التي أجبرت على اليهودية، وهو ابن القائد انتيباتر، وقد حصل على امتياز لدى الرومان عند مجيئهم إلى البلاد، وتولى الحكم على كامل فلسطين وأجزاء من شرق الأردن بأمر من الإمبراطور الروماني، إلا أن هذا الأمر لم يعجب اليهود.

وتشير الروايات التاريخية إلى أن القلعة هي المكان الذي دفن فيه الملك هيرودوس.

في بيت لحم مغارة سقطت قطرات من حليب العذراء فيها فبقي صخرها أبيضًا حتى اليوم

مذبحة الأطفال مغارة الحليب

وفي خضم القلاقل التي وقعت في فلسطين آنذاك قَدِم إلى القائد هيرودوس مجموعة من الكهنة المجوس من بلاد فارس، بعد أن تتبعوا نجمة تشير إلى ولادة نبي جديد وتوقفت -وفق الرواية التاريخية- فوق بيت لحم، فأخبروه بأن هناك طفل سيولد قريبًا وسيأخذ الحكم منه، فأمر بقتل كل الأطفال الذين يولدون في الفترة التي تحدث عنها المجوس.

فلما سمعت السيدة مريم العذراء بذلك أخت ابنها النبي عيسى عليه السلام وقريبها يوسف الصديق (المقصود هنا ليس النبي يوسف) وسافرت بهما إلى مصر، وأثناء الهرب التجأ الجميع إلى مغارة تقع حاليا جنوبي كنيسة المهد، وأرضعت العذراء طفلها عيسى فسقطت بضع نقاط من الحليب على صخرة في تلك المغارة، فتحولت صخورها إلى اللون الأبيض الناصع حتى يومنا هذا، ويعتقد أن لهذه الصخور قدرة على الشفاء وإدرار الحليب عند النساء الوالدات.

 

دير ابن عبيد (مارثيوسوديوس)

من جنوبي بيت لحم نتجه إلى شرقها حيث يقع دير ابن عبيد أو (مارثيوسوديوس) نسبة إلى القديس ثيودوسيوس، الذي بناه عام 500 ميلادي في بلدة العبيدية شرقي بيت لحم، كما يروي رئيس بلدية العبيدية سليمان العصا لـ "ألترا فلسطين".

هو دير قديم يحيط به سور كبير، ويحوي بقايا كنيسة بيزنطية، وفيه مغارة يوجد فيها هياكل عظمية لبعض الرهبان الذين قتلوا في فترة الغزو الفارسي لفلسطين في 614 -648م، وهو دير للتعبد والتنسك في مناطق نائية؛ ولدراسة التعاليم الدينية. تقول الروايات الدينية المسيحية إن الرجال الحكماء استراحوا في هذا الدير بعد أن حذرهم الله في الحلم الذي راودهم من العودة إلى هيرودوس.

 

بتير.. الإنسان الأول!

من الأماكن الأثرية ننتقل بكم إلى مكان عيش الإنسان الأول، حيث بلدة بتير غربي بيت لحم، التي كانت إحدى محطات سكة القطار الذي أقامه العثمانيون لربط مدينة القدس مع يافا، عام 1892، ولا زالت شاهدة على العصر حتى اليوم. وكان يمر منها الطريق التجاري القديم الذي يربط القدس وغزة.

كانت بتّير في عهد الرومان قلعة حصينة، حسب حمامرة، وعُثر فيها على نقش يشير إلى المعسكر الروماني الذي أقيم فيها خلال فترة حكم الإمبراطور هدريان حوالي 132-135، وتوجد بها آثار من الفترة الكنعانية خلال العصر البرونزي الوسيط امتدادًا لوقتنا الحاضر.

ويرجع أصل تسمية بتير إلى اللغة الكنعانية أو الفينيقية، وتعني بيت الطير بسبب كثرة الطيور التي تعيش فيها بسبب طبيعتها الخلابة، وهناك من يرى بأنها تعود للفعل الثلاثي في اللغة العربية بمعنى بتر أو قطع.

تتميز بتير بمدرجاتها الزراعية وبساتينها الخضراء، وتضم العديد من العيون المائية ومن أهمها عين البلد، وعين جامع، وعين عمدان.

ويمثل الموقع والمناطق المحيطة به من المدرجات الزراعية ونظام الري نموذجا بارزًا لسكن الإنسان بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص بالقرب من مصادر المياه، والتكيف مع الأراضي للأغراض الزراعة.

أُدرجت المدرجات الزراعية في بتير على لائحة التراث العالمي في عام 2014، تحت عنوان: "فلسطين أرض الزيتون والعنب". ويعتبر هذا الموقع معلمًا نموذجيًا أساسيًا للمشهد الثقافي في جبال فلسطين الوسطى؛ التي تمتد من مدينة نابلس شمالاً حتى الخليل جنوبًا.

ويتضمّن المنظر الطبيعي سلسلة أودية زراعية ومدرّجات حجرية عمرها مئات السنوات، تعود للفترة الرومانية والكنعانية، والتي بنيت بسبب البيئة الجبلية للمنطقة، واستخدمت القنوات المائية لري الأراضي الزراعية المحيطة بينابيعها.

وتشتهر بتير بالعديد من المزروعات المروية وأهمها الباذنجان البتيري، ويوجد في القرية نموذج فريد في تقسيم المياه للزراعة بين عائلاتها الثمانية الموجودة فيها، وفق نظام عادل فيما بينها.

في بلدة بتير في بيت لحم عاش الإنسان الأول وفيها آثار من الفترة الكنعانية في العصر البرونزي الوسيط

وإضافة إلى المدرجات الزراعية الواسعة والينابيع، وأنظمة الري، ومعاصر الزيتون والمواقع الأثرية القديمة (الخرب)، والقصور الزراعية (المناطير) التي استخدمت للمراقبة أثناء المواسم الزراعية، فإن بتير تحتوي على مسار سياحي بيئي يستطيع الزائر التعرف فيه على طبيعة المنطقة الجبلية الخلابة وما تحويه من معالم ونباتات مختلفة، وفيها متحفٌ بيئيٌ، وقد رُممت العديد من مباني القرية التراثية، ورُفّع المجلس القروي فيها حديثًا إلى بلدية، وأصبحت مقصدًا سياحيًا للعديد من الزوار الذين يؤمونها على مدار العام.

 

أسطورة "العريس والعروس"

وليس بعيدًا عن بتير تقع منطقة المخرور الطبيعية بين بيت جالا وبتير والخضر وحوسان، فهناك العديد من عيون الماء القديمة في حوسان تحديدًا ذات أهمية تاريخية وسياحية، من أهمها عين الهوية، وعين البلد. فعين الهوية سميت بهذا الاسم لأن المياه تهوي من منحدرٍ عالٍ، ولها بركة من الفترة الهيلانيستية (اليونانية) في القرن الثالث قبل الميلاد.

وللوصول إلى البرك هناك نفق بطول 15 مترًا موصول على حجرتين تسقط المياه من سقفهما على ارتفاع 7 أمتار، حيث تشكلت نظام الصواعد والهوابط وهي ترسبات كلسية نتيجة حركة المياه.

ويقول الناشط جمال شوشة من حوسان لـ "ألترا فلسطين"، إن الرواية الاسطورية تفيد بأن شابًا وفتاة أحبا بعضهما واتفقا على الزواج، إلا أن ذويهما رفضوا هذه العلاقة، فدخلا في كهف عين الهوية واعتصما هناك حتى توفيا، فتحولا إلى الصواعد والهوابط. وعندما دخل أهل القرية إلى كهف العين أطلقوا عليهما وصف "العريس والعروس".

في بيت لحم أينما تولّ وجهك فثمّ مكان تاريخي أو سياحي يثير الدهشة ويستحق الزيارة، فتلك أماكن صمدت في وجه حقب زمينة طويلة، بعضها حاولت نهب هذه المناطق أو تدميرها بالكامل، وبعضها من حاول تزويرها ليفرض له تاريخًا في هذه الأرض.