فجأة أصبح (مثقفون) عرب من الجيل الشاب يعرفون تاريخ فلسطين وبني إسرائيل جيداً، ويحاولون جاهدين إثبات أنه ليس للقدس مكانة دينية عند المسلمين، وأن التاريخ ينحاز إلى إسرائيل في الصراع على الأرض الفلسطينية. لا يحدث هذا طوعاً، بل بتوجيهات من أنظمة عربية تجتهد في تحقيق التطبيع الكامل مع إسرائيل، من خلال تصفية القضية الفلسطينية عبر بوابة صفقة ترامب، المعروفة بصفقة القرن.
"ورد ذكر إسرائيل في القرآن عشرات المرات، ولم يرد ذكر القدس وفلسطين مطلقاً"، "القدس كان اسمها إيلياء عند الفتح العمري (..) لم تكن يوما عاصمة للدولة الإسلامية (..) عمر بن الخطاب لم يصلّ في المسجد الأقصى، وهذا يعني أن المسجد لم يكن موجوداً في عهد الرسول، وليس هو المقصود في سورة الإسراء". هذه أبرز الادعاءات التي طالعنا بها أخيراً (مثقفون) من مصر والسعودية، يسحجون للتطبيع وينشطون في محاولة دفع الشعوب العربية إلى تجاهل قضية فلسطين، والإيمان بأنهم "خُدعوا" طوال العقود الماضية في الخطاب المتعلق بفلسطين والقدس.
يخلط مؤيدو التطبيع بين التاريخ والدين في سبيل إثبات الحق اليهودي في أرض فلسطين، ويتجاهلون أن الصراع مع إسرائيل لا يرجع لكونهم يهوداً، بل لأنها دولة احتلال
اللافت هنا، أن هؤلاء المتحدثين وهم ملحدون وليبراليون، يخلطون بين الخطاب الديني والتاريخي، والهدف هو ما ذكرناه سابقاً، ولا ينتبهون – جهلاً أو عن قصد – إلى أن الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي ليس دينياً بالدرجة الأولى، وأن الفلسطيني الذي لا يترددون في وصفه بالوحشية بسبب تنفيذه عملية طعن أو دهس، لم يختر هدفه في عمليته لأنه يهودي، أو غير مسلم، بل لأنه جندي أو مستوطن، يقيم في هذا المكان بقوة السلاح، وبعد أن سفكت "دولته" دماء عشرات الآلاف من أبناء شعبه على مدى 100 سنة، وأقول 100 سنة لأن التاريخ الذي يجهله هؤلاء، يتحدث عن مواجهات دامية مع المستوطنين إبان الاحتلال البريطاني، قبل إعلان قيام "دولة إسرائيل".
اقرأ/ي أيضاً: عن دلال إسرائيل ولهاث المعتدلين العرب للتطبيع
يبدو مثيراً للسخرية الآن أن نضيّع وقتنا في إثبات أن القدس هي ذاتها التي وردت في أحاديث للنبي محمد، عن المرابطين إلى يوم الدين لا يضرهم من خالفهم، وأن المسجد الأقصى هو ذاته الذي أوصى النبي بإرسال زيت يسرج في قناديله من الذين لا يستطيعون الوصول إليه. الأهم من ذلك الآن، هو أن يفهم هؤلاء الذين يتبنون خطاباً لطالما ردده الإسرائيليون عن مكانة القدس في ديانتهم، وغيابها التام عن الدين الإسلامي، أننا في صراعنا مع الاحتلال لا تحرّكنا فقط المشاعر الدينية، وإلا لكانت الفتاوى التي تحرم العمليات الفدائية ضد الاحتلال قد دفعتنا إلى إنهاء مقاومتنا خوفاً من أن تذهب هذه العمليات بشهدائنا إلى النار!
لقد بدأ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي منذ السعي البريطاني إلى إحلال اليهود على هذه الأرض، وقد فعلت ذلك بدءًا من إعلان بلفور، ثم دعم الهجرات اليهودية المنظمة، ثم حماية المستوطنات ومنح المستوطنين مساحة لتشكيل مليشيات مسلحة ومنظمة، بل وتمويلها بالسلاح والمال، ثم ابتداعها المجلس التشريعي ومنح اليهود مقعدين فيه مقابل 10 مقاعد للعرب.
القضية إذن ببساطة شديدة، أن آلاف البشر لا تجمعهم إلا ديانة واحدة، قرروا فجأة أن يجتمعوا من أماكن وجودهم كمواطنين، ويقيموا دولة على أرض يسكنها 1.415 مليون شخص (عدد سكان فلسطين عام 1948) لأن هذه الأرض كانت لهم قبل آلاف السنين. ومن أجل إقامة هذه الدولة، ارتكبوا أكثر من 50 مذبحة موثقة، ودمروا 531 قرية ومدينة، فقتلوا أكثر من 15 ألف شخص، وهجّروا بالقوة 750 ألف شخص.
في صراعنا مع الاحتلال لا تحرّكنا فقط المشاعر الدينية، وإلا لكانت الفتاوى التي تحرم العمليات الفدائية ضد الاحتلال قد دفعتنا إلى إنهاء مقاومتنا خوفاً من أن تذهب هذه العمليات بشهدائنا إلى النار!
تشير معطيات إلى أن نسبة اليهود في فلسطين عند ارتكاب مذابح النكبة، والانتصار على الجيوش العربية برمشة عين، كانت تمثل 31% من عدد السكان، وأغلبية هؤلاء طبعاً كانوا مهاجرين، فيما بلغ مجموع ما كان يملكه المستوطنون اليهود من أرض فلسطين عام 1918، 240 ألف دونم، أي ما نسبته 1.56% من الأرض، وتشير معطيات إلى أن هذه المساحات ارتفعت لتصل نسبتها إلى 7% من مجمل الأراضي عام 1948.
وللحقيقة والمصداقية، فإن اليهود آنذاك اشتروا الأراضي من عائلات فلسطينية وعربية، قسم منها باعت أراضيها إلى سماسرة فلسطينيين، فاكتشفت لاحقاً أن هؤلاء كانوا خونة وباعوها لليهود، وبقيتها باعت عن دراية مسبقة بأن أرضها تذهب لليهود. وسنسأل الآن: لماذا لم يواصل اليهود نهجهم الذي بدأوا به؟ الهجرة وشراء الأراضي. لماذا لم ينخرطوا مع سكان هذه الأرض حتى يصبحوا جزءاً من الشعب؟ وهم قادرون على أن يمتلكوا مع الزمن رأس المال، والحكم، والجيش أيضاً، وبطرق غير دموية.
اقرأ/ي أيضاً: نجوم عرب يعلقون على قرار ترامب.. ماذا قالوا؟
هناك إجابتان: إما أنهم وجدوا رفضاً فلسطينياً واضحاً وقوياً لوجودهم، فقرروا أن العمل العسكري الذي يتضمن إبادة جماعية وتطهيراً عرقياً هو الحل الأمثل، وهذا صحيح تماماً. أو أنهم جاؤوا مسبقاً بقرار تنفيذ المثل الشعبي الذي يتقنونه هم أكثر من سواهم: "تمسكن حتى تتمكن"، فاشتروا الأراضي، وعززوا وجودهم من خلال الهجرات المنظمة، ثم عندما قررت بريطانيا الانسحاب من فلسطين، منحتهم الفرصة والرعاية الكاملة لتنفيذ مخططهم التطهيري، وهذا أيضاً صحيح.
إذن، وببساطة شديدة أيضاً، فإنه لا يمكن لإنسان ولد في أرض ما، ووجد أن أجداده يعيشون هنا، وخلال وجوده أسس صحفاً، ودور عرض سينمائي، وفريقاً لكرة القدم، وإذاعة، وخرّج شعراء، وبنى مدارس، وأصبح له في هذه الأرض حضوراً راسخاً وتراثاً وحكايات وأمثال وأملاك وثقافة، أن يتنازل في النهاية عن أرضه لأن هناك بشراً يعيشون في مختلف بقاع العالم، تذكروا الآن أن يقيموا دولة لهم، واحتاروا أين سيقيمونها! على هذه الأرض (فلسطين)؟ أو في الأرجنتين؟ أو أنغولا؟ ثم قرروا في النهاية أن فلسطين هي الأنسب.
وبناء على ذلك، ورغم قدرتنا على إثبات أن القدس كانت قدساً في أيام النبي محمد، وأن المسجد الأقصى هو ذاته الوارد في سورة الإسراء، إلا أننا نصر على أن تمسكنا بفلسطين، وإصرارنا على كل أشكال المقاومة منذ 100 عام، ورفضنا الشديد والقاطع لاستمرار الاحتلال الإسرائيلي على كافة أراضي فلسطين، يرجع في الأساس إلا أننا عند إقامة "دولة إسرائيل" كنا أصحاب الأرض، وأغلبية السكان، وأننا ولدنا هنا ولم نأت مهاجرين، برغم خيانة بعض السماسرة ومُلّاك الأراضي، فهذه الخيانات لم يخلُ منها شعب في الأرض، وأكبر دليل على ذلك، أن (مثقفين) و(نشطاء) قبلوا أن تمتطيهم إسرائيل إلى الأبد، معتقدين أن في التطبيع معها مصلحة لهم، دون أن ينتبهوا إلى أن عقوداً من السلام بين إسرائيل ومصر مثلاً، لم تجلب إلى البلد العربي اقتصاداً قوياً، ولا استقراراً أمنياً، بل إنها لم تمنع إسرائيل من التجسس على مصر، كما لم تمنعها اتفاقية السلام مع الأردن من قتل مواطنين أردنيين في عمّان، والامتناع حتى عن الاعتذار عن هذه الجريمة.
إننا في فلسطين لا تعنينا أكذوبة الحق اليهودي في هذه الأرض، ولا يهمنا عدد المرات التي ذُكر فيها بنو إسرائيل في القرآن، ولن نقبل يوماً بأي صفقات تُعد من أجل تصفية حقنا، حتى لو حازت كل الدعم من أنظمة عربية. 100 عام مضت منذ احتلال فلسطين، لم يكن للأنظمة العربية كلمة في ثوراتنا وانتفاضاتنا وهباتنا وحروبنا، منذ أول ثورة ضد الاحتلال البريطاني، وحتى أيام الغضب هذه على قرار ترامب، فلماذا يكون لاتفاقياتهم مع ترامب وإسرائيل اعتبار؟
اقرأ/ي أيضاً: