لم ينته الشهر الخامس على العملية الديمقراطية في نقابة الأطباء، حتى قررت السلطة الفلسطينية التخلص من النقابة التي تقودها قوائم محسوبة على المعارضة بعد خسارة كبيرة لقائمة فتح في الانتخابات، ويرأسها شوقي صبحة، الرجل الذي فُصل من حركة فتح في عام 2015، بسبب رفضه خوض الانتخابات حينها ضمن قائمة فتح.
اختارت قيادة السلطة الفلسطينية توقيتًا "ذكيًا" -بالنسبة لها- لكنه سيئ جدًا في الواقع لاتخاذ قرار تصفية النقابة، حيث الضفة الغربية، ما يجعل صعبًا على نقابة الأطباء خوض خطوات احتجاجية مثل الإضراب، وفي حال فعلوا ذلك فسيكونون في مواجهة اتهامات صعبة مثل الخيانة أو التخاذل
اختارت قيادة السلطة الفلسطينية توقيتًا "ذكيًا" -بالنسبة لها- لكنه سيئ جدًا في الواقع لاتخاذ قرار تصفية النقابة، حيث الضفة الغربية -خاصة شمالها- على صفيح ساخن: اغتيالات، واشتباكات مسلحة، ومواجهات عنيفة من حين لآخر، وارتفاع في معدل الشهداء، ما يجعل صعبًا على نقابة الأطباء خوض خطوات احتجاجية مثل الإضراب، وفي حال فعلوا ذلك فسيكونون في مواجهة اتهامات صعبة مثل الخيانة أو التخاذل من قبل شريحة واسعة من الجمهور. لكن نقابة الأطباء ذهبت إلى خيارٍ ليس مسبوقًا في خطواتها الاحتجاجية، وهو العصيان الطبي الشامل، وهو شاملٌ حتى للعيادات الخاصة وليس فقط المستفشيات الحكومية أو الخاصة.
الأيام المقبلة، ستشهد جدلاً كبيرًا وسيلاً من الاتهامات للنقابة والأطباء، وربما التحريض عليهم، كما حدث مع الحراك الاحتجاجي الذي خاضه معلمون خارج إطار الاتحاد (الذي يعتبره المعلمون خاضعًا للسلطة). وستشهد أيضًا تأييدًا للنقابة ودفاعًا عن خيارها، وهو ما بادرت له نقابة المحامين. ويُمكن القول إن بيان وزارة الصحة -الذي دعت فيه الأطباء للعودة إلى عملهم في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد وقالت إن الحوار هو الخيار الأفضل- هو بداية هذا الجدل الذي يُخشى من تطوره إلى تحريض.
لكن بعيدًا عن الانحياز العاطفي لنقابة الأطباء أو ضدها، فإن القرار الرئاسي بتشكيل نقابة أطباء فلسطينية يستحق أن يُرفض، لعدة أسباب:
أولاً: الانتخابات التي شهدتها بعض النقابات مؤخرًا، ومنها نقابة الأطباء، هي مظهرٌ من مظاهر قليلة جدًا للعملية الديمقراطية الكسيحة في هذه البلاد. وإن كان القرار الرئاسي يتضمن إجراء انتخابات في غضون عام للنقابة الجديدة، فإنه في جوهره يعني تصفية نقابة خسرها الحزب الحاكم في الضفة (حركة فتح)، وإنشاء نقابة جديدة، ليس مهمًا من سيفوز في انتخاباتها ويصل لقيادتها، إلا أن المهم هو آلية التعامل مع نقابة منتخبة وتخوض من حين لآخر خطوات احتجاجية ضد وزارة الصحة والحكومة، وسبق أن هاجمها الرئيس على الهواء.
ثانيًا: نص القرار الرئاسي على إجراء انتخابات النقابة الجديدة (الفلسطينية) في القدس. وهنا يجب القول إنه ما دام ممكنًا إقامة الانتخابات في جسم نقابي فلسطيني في القدس، فلماذا إذن لا تقام الانتخابات التشريعية والرئاسية؟ وقد كانت ذريعة السلطة في إلغاء هذه الانتخابات هو تعذر إقامتها داخل القدس، وأنها لا تريد إجراءها في بلدات مقدسية خارج الجدار الفاصل، مثل العيزرية وأبو ديس.
هذا يثير أيضًا شبهات حول حقيقة أن هذه الانتخابات ستجري بالفعل. وقد يكون إدخالها في الدعوة هو مجرد مخرج في مواجهة الاتهامات أو المخاوف بأن النقابة الجديدة قد تكون معينة.
الخوف هنا من أن نجاح السلطة في تصفية نقابة الأطباء سيتبعه الانتقال لتصفية نقابات أخرى لم تتمكن السلطة من السيطرة عليها بالعملية الديمقراطية
ثالثًا: النقابة الحالية لها مقرها وممتلكاتها في القدس. وهذه محمية كونها تابعة للأردن وليس السلطة الفلسطينية، والنقابة في عمان أكدت في بيان يوم الأربعاء تمسكها بهذه الأملاك. وهذا يجعلنا نسأل: كيف ستتواجد النقابة الجديدة في القدس؟ فإن أصبحت المقرات والأملاك الموجودة فلسطينية قد تكون عرضة للمصادرة من سلطات الاحتلال، وهذا يعني إقصاء النقابة من القدس، مثل ما تم إقصاء المؤسسات الفلسطينية سابقًا دون أن تفعل السلطة شيئًا على الإطلاق.
رابعًا: القرار بقانون الذي أصدره الرئيس محمود عباس يأتي استكمالاً لسيل من القرارات السابقة التي صدرت بدون حاجة طارئة، ولم تخضع للنقاش مع الجهات المعنية، مثل المجتمع المدني. رغم أن القانون الأساسي ينص أنه "لرئيس السلطة الوطنية في حالات الضرورة التي لا تحتمل التأخير في غير أدوار انعقاد المجلس التشريعي، إصدار قرارات لها قوة القانون، ويجب عرضها على المجلس التشريعي في أول جلسة يعقدها بعد صدور هذه القرارات وإلا زال ما كان لها من قوة القانون، أما إذا عرضت على المجلس التشريعي على النحو السابق ولم يقرها زال ما يكون لها من قوة القانون".
ومن هنا يأتي وجوب رفض هذا القرار بقانون، ومعه رفض فكرة تواصل إصدار القرارات بقانون التي لا حاجة طارئة لها، والمطالبة بدلاً من ذلك بانتخابات تشريعية تفضي لانتخاب مجلس تشريعي يتولى مهمة إصدار التشريعات مثلما يجب أن يكون، وما يحدث في جميع العالم.
خامسًا: السهم المصوب نحو نقابة الأطباء، يُذكرنا بإجهاز السلطة على نقابة الموظفين العموميين بعد ما أنشأتها لمناكفة حكومة حماس. الخوف هنا من أن نجاح السلطة في تصفية نقابة الأطباء سيتبعه الانتقال لتصفية نقابات أخرى لم تتمكن السلطة من السيطرة عليها بالعملية الديمقراطية.
وأمام هذه الأسباب، التي لعلها ليست كل أسباب الرفض بل جزءًا منها، فإنه يتوجب على الجماهير والتنظيمات ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات اتخاذ موقف واضح ضد القرار الرئاسي بتصفية نقابة الأطباء، حرصًا على ما بقي من مظاهر الديمقراطية في هذه البلاد، وحماية للعمل النقابي بشكل عام، ومنعًا للقبضة الحديدية التي تشتد يومًا إثر آخر ضد الحريات.