كطفلة صغيرة كان يصعب عليّ تخيل الأردن إلّا كجنة يعيش أهلها بخير وسعادة أبدية، ولأنني لم أكن أسافر أبدًا فكنت أتخيّل وجود جسر فعلًا، على الحدود بين فلسطين والأردن! جسرٌ يشبه الجسور الخشبية في أفلام الكرتون، يمشي الفلسطينيون عليه ويذهبون إلى الطرف الأخر من العالم، حيث الحياة أكثر هدوءًا وجمالًا. ولو أنني فكرت في الأمر قليلًا لمَا أخذني الخيال لمِا أخذني إليه.
فأفلام الكرتون لم تقدم لنا بيوتًا تشبه بيوتنا ولا حدائق ومنتزهات تشبه شيئًا مما يمكن لنا أن نراه على أرض الواقع، فلماذا إذًا كنت أتوقع أن تكون الجسور وحدها حقيقية؟ ربما لأنها تأخذنا إلى الأردن.. إلى "جنة لا احتلال فيها".
من أين نأتي بهذه القدرة على الخيانة؟ ليس فقط خيانة أنفسنا طمعًا بالراحة، بل خيانة الذين قُتلوا دون أن يحظوا بذات الفرصة ليحيوا حياة طبيعية بينما نحن نحياها!
كَبرتُ وكلمة الأردن مازالت مرتبطة لديّ بالخلاص، ربما لأن الأردن هو منفذنا الوحيد كفلسطينيين في الضفة الغربية إلى العالم، ومن خلاله كُنّا نرتاح من حياتنا غير الطبيعية بشكل مؤقت، وربما أيضًا لأنّ الأردن كانت بالنسبة لي البلد الحلم.. الذي لا احتلال فيه.
فالاحتلال الإسرائيلي كان آنذاك هو الحاجز الوحيد بيننا وبين الحياة السعيدة التي كنت أنشدها كطفلة، لم أكن وقتها أعرف أنّ العالم مكان معقد جدًا لدرجة أنّ هناك ما هو أخطر علينا من الاحتلال، لم يخطر على بالي أبدًا أنّ سعادة الشعوب أمرٌ خياليّ، وأنّ العالم لا يشبه أفلام الكرتون أبدًا، وأن الأردنيين الذين كنت أراهم المواطنين الأكثر حظًا في العالم، هم أيضًا ليسوا سعداء مثلنا، ولكن لأسباب مختلفة.
حالياً يصعب عليّ مشاهدة المسلسلات السورية القديمة التي أحب، والتي لم أكن أمَلُّ من إعادة مشاهدتها مرة تلو الأخرى، فبعد الثورة بات كل شيء مؤلمًا بحيث لا يمكنني التوقف عن تخيّل ماذا حلّ بهذه الشوارع الآن، وماذا تبقّى من هذه البيوت، وهل قتلت الحرب أحدًا من هؤلاء المارة الذين يظهرون في تصوير المشهد؟ أسئلة مؤلمة تجعلني أتمنى لو أنّ الثورة لم تقم بالأساس، ولو أنّ الحياة على مراراتها ظلّت كما هي، فهي لم تكن حياة عادلة ولا حُرّة ولكنّها كانت حياة، على الأقل للذين لم تطلهم يد سجون النظام وأقبية تعذيبه.
قد نخون الأفكار والمبادئ أحيانًا طمعًا بالراحة، الراحة مغرية والحياة الطبيعية الهادئة مغرية مهما كان ثمنها. ومهما كانت مزيّفة، فأن تعيش حياة آمنة مستقرة مشروطة بالصمت، أحبُّ إليك من حرب تمتلئ فيها الشوارع بالدم والجثث من أجل أن تحررك من هذا الشرط. أليس كذلك؟ ورغم أنّك تعرف أنه حتى في حياتك الآمنة فإنّ هناك دماء وجثث ومعتقلون سياسيون يعيشون الموت يوميًا دون أن يموتوا، فأنت ومهما سيبدو الامر سخيفًا ستعود إلى المعادلات الحسابية وعلم الرياضيات، وستلعب لعبة الأرقام لتحدد مواقفك ورأيك في الأحداث، وستعتبر انتهاء حياتك الآمنة المستقرة أكبر مأساة حدثت، لأنّ عدد الجثث فيها كان أقلّ، ولم يكن ظاهرًا للعيان، ولم يكن محورًا لنشرات الأخبار حول العالم.
من أين نأتي بهذه القدرة على الخيانة؟ ليس فقط خيانة أنفسنا طمعًا بالراحة، بل خيانة الذين قُتلوا دون أن يحظوا بذات الفرصة ليحيوا حياة طبيعية بينما نحن نحياها! وبينما بات واضحًا للكثيرين أن العديد من التقسيمات الجغرافية والدينية ما هي إلّا فرصة جيّدة لقتلنا أو لاستغلال حياتنا لقتل الآخرين، فإنّه ومع مرور الوقت ظهر شكل جديد لاستغلال هذه التقسيمات، وهو في اقناعنا بأن الحالة الوحيدة التي تستحق الهلع والخوف هي عندما يكون القاتل من خارج إطارنا الديني أو الجغرافي، أما إذا كان القاتل (منا وفينا) فلا داعي للقلق بل وعلينا أن نحافظ على هذا الشكل من القاتل والمقتول، لأنه ضروري لنحمي أنفسنا من قاتل غريب يطمع في بلادنا!
يبدو أنّ التعافي من الأمراض النفسية التي خلقها الاحتلال فينا بات متطلبًا أساسيًا للتعافي من الاحتلال نفسه. لقد قدّم لنا الاحتلال أسوأ نماذج الحياة لدرجة أننا بتنا نتخيّل أنّ أيّ حياة أخرى مهما كانت مزيّفة الحريات هي أفضل من حياة بائسة وقاسية حتى لو كان الإنسان فيها يقاتل من أجل حرية حقيقية. لقد أدرك أصحاب السلطات والنفوذ من زعماء وملوك عُقد شعوبهم النفسية فعززوها واستخدموها ضدهم، وعرفوا جيدًا كيف يستخدمون القضية الفلسطينية لإحكام سلطتهم على البلاد، من أجل ذلك تراهم يقمعون ويقتلون باسم الأمن القومي للبلاد، وغالبًا ما يجيبون عن الاسئلة البسيطة المتعلقة بالحريات الشخصية بكلمات مخيفة تتنبأ بوجود مؤامرات خارجية تستهدف حرية البلاد، ورغم أن شعوبهم غالبًا ما تعيش ظروفًا قاسية تشابه ظروف الشعوب الخاضعة للاحتلال، إلّا أنه يتم إقناعهم بأنهم يعيشون في الجنة، وأنّ عليهم أن يحافظوا على جنّتهم بالصمت والرضا والطاعة.
اقرأ/ي أيضًا: