لا يزال موضوع إصلاح القضاء من أكثر المواضيع حيوية، وهو محل اهتمامٍ مجتمعيٍ وقانونيٍ ورسميٍ سواءً في ما يتعلق بالقضاة أنفسهم، أو في ما يتعلق بالسلطة التنفيذية، ورغم ذلك الاهتمام الذي يبرز على السطح بين فينةٍ وأخرى، لا يوجد أي تقدم على الأرض، بل يبقى القضاء على حاله.
إحدى المحاولات الجديدة للضغط والتأثير من أجل إصلاح القضاء تتمثل في المؤتمر الشعبي لإصلاح القضاء المقرر عقده بتاريخ 8 تموز/يوليو الجاري، والذي دعا لعقده الائتلاف الأهلي لإصلاح القضاء وحمايته، وهو ائتلافٌ يضم حوالي 28 مؤسسة أهلية وحقوقية فاعلة ذات اهتمام بالشأن القضائي. هذه المحاولة قوبلت بضغوطٍ شديدةٍ من أجل تأجيل المؤتمر أو إلغائه، والمفارقة العجيبة أن هذه الضغوط جاءت من أطرافٍ رسميةٍ متخاصمةٍ ومتناقضة المصالح والدوافع، لكنها التقت في ما يتعلق بالمؤتمر.
أطرافٌ رسمية متناقضة المصالح والدوافع مارست ضغوطًا شديدة لتأجيل أو إلغاء مؤتمر شعبي لإصلاح القضاء
بعض القضاة أبدوا رغبتهم في تأجيل المؤتمر، وعبَّروا عن خشيتهم من أن تستخدم جهاتٌ ما في السلطة التنفيذية نتائج المؤتمر للانقضاض على القضاء والقضاة، وإخضاعهم بالكامل للسلطة التنفيذية، بل يخشون من محاسبة قضاة أصدروا قراراتٍ أزعجت السلطة التنفيذية، ومن استخدام الإصلاح لتصفية حساباتٍ شخصية، وبالتالي قرروا مقاطعة المؤتمر، ودعا بعضهم على مواقعهم الخاصة لامتناع القضاة عن حضور المؤتمر.
اقرأ/ي أيضًا: همسة في أذن الرئيس لجلسة استماع حول القضاء
في المقابل، عبرت أطرافٌ عديدة قريبة من السلطة التنفيذية عن رغبتها في تأجيل موعد انعقاد المؤتمر، خوفًا من تأثير نتائجه على خطة السلطة التنفيذية وتدخلاتها المتوقعة خلال العطلة القضائية، لاعتقادهم بأن هذا الصيف سيكون ساخنًا في ما يتعلق بالشأن القضائي، وأن هناك إرادة سياسية لإصلاح القضاء، وعقد هذا المؤتمر من شأنه أن يعطل إرادة الإصلاح.
بذلك التقت للمرة الأولى رغبة الأطراف المختلفة والمتخاصمة في بعض الأحيان بالخشية من نتائج المؤتمر، مع رغبتهم في تأجيل انعقاده.
رغم ذلك أصر منظمو المؤتمر على عقده في تاريخه، وأصروا على أن يُسمع صوتُهم قبل أي تدخلات قد تحدث، أملاً منهم في التأثير الإيجابي وكبح جماح التأثير السلبي لأي تدخلاتٍ متوقعة، ورغبة في أن يحددوا مسارًا واضحًا للإصلاح القضائي، فهم على وعيٍ أن السلطة التنفيذية غير مؤتمنةٍ على إصلاح القضاء، وعليهم أن يحولوا دون أن ينجم عن أي تدخلاتٍ خارجيةٍ إحكام سيطرةٍ على القضاء. في المقابل، يعون أن الوضع الحالي للقضاء غير مقبول لأحد، وأن القضاء قد فشل في إصلاح ذاته بذاته، وأنه لا يمكن التعامل مع القضاء باعتباره إقطاعيًا يخص قطاعًا ما دون غيره.
فوجود قضاء مستقلٍ نزيهٍ فيه أدوات المساءلة والمحاسبة، ومحميٌ من تدخل السلطة التنفيذية في عمله؛ أو من تدخلات القضاة الأعلى درجة على الأدنى درجة، أو تدخل إدارة القضاة في قرارات القضاة، ويخضع لرقابةٍ مجتمعيةٍ، ويشكل المجتمع في ذات الوقت سورًا حاميًا له، هو القضاء الذي نأمله، فلا قضاء مستقلٌ يمكن أن يكون دون حمايةٍ دستوريةٍ مبنية على مبدأ الفصل بين السلطات وحماية شعبية، يضاف إلى ذلك حماية القاضي لنفسه من نفسه.
المؤتمر الشعبي لإصلاح القضاء سينعقد وسط غياب غالبية الأطراف الرسمية عنه، وقد تشمل المقاطعة أطرافًا أخرى
المؤتمر الشعبي في طريقه للانعقاد وسط غياب غالبية الأطراف الرسمية عنه، فبعض هذه الأطراف اعتذرت عن المشاركة، والبعض الآخر فضل عدم الرد على دعوة المشاركة في المؤتمر. سيغيب عن المؤتمر رئيس مجلس القضاء الأعلى وأعضاؤه، ونادي القضاة، ووزير العدل، والمستشار القانوني للرئيس، ولا يُستَبعَدُ أن تشمل المقاطعة أطرافًا أخرى ممن يصنفون أنفسهم أطراف قطاع العدالة. كما سيغيب عن المؤتمر قطاعٌ محددٌ من القضاة ومن نادي القضاة.
اقرأ/ي أيضًا: سقوطٌ مدوٍ للتعليم القانوني في تعيين قضاة
سيُعقد المؤتمر الشعبي في ظل غياب المتخاصمين من أطراف العدالة، الذين كان عليهم أصلاً بصفتهم الوظيفية مسؤولية إنقاذ القضاء مما آل اليه وحمايته، لكنهم أخفقوا في ذلك على مدار السنوات التي مضت، ولم تتجاوز محاولات إصلاح القضاء سياسة تعزيز الصلاحيات واقتسام الكعكة، وهذا زاد في سوء القضاء، وزاد الحاجة إلى عقد مثل هذا المؤتمر.
المؤتمر سيعقد صباح يوم الاثنين في ظل حضورٍ مجتمعيٍ فاعل، ستُشارك فيه شخصياتٌ مجتمعيةٌ وقانونيةٌ وقضائيةٌ وازنةٌ لها ثقلها ومكانتها في المجتمع الفلسطيني، شخصياتٌ لها خبرةٌ طويلةٌ في الشأن القضائي، وتحظى في ذات الوقت بثقة المجتمع الفلسطيني وثقة غالبية القضاة بل وثقة السلطة التنفيذية، ستُلقى على عاتقها مسؤولية قول كلمة الحق فيما يتعلق بالقضاء، بل ورسم مسار وخارطة طريقٍ لإنقاذ القضاء الفلسطيني من حالة التنازع والسيطرة والضعف والوهن التي ألمَّت به خلال السنوات الأخيرة.
تقع على هؤلاء أيضًا مسؤولية تحديد الآلية التي يجب أن يعاد بناء القضاء فيها. باختصار عليهم تحديد مواصفات جرَّاح القضاء القادم، فولاية رئيس مجلس القضاء الحالي أوشكت على الانتهاء، وخططٌ كثيرةٌ ترسم من أجل القضاء في الخفاء، والحكومة الجديدة ترى في إصلاح القضاء وسيلة لكسب ثقة الجمهور بها، لكن الطريق في كل الأحوال ليس مكللاً بالنوايا الحسنة، في ظل هذه الخريطة الفسيفسائية المعقدة التركيب.
تبقى معضلة اختيار جراح القضاء هي التحدي الأكبر، فمواصفاته، والصلاحيات التي ستُمنح له، والبيئة التي يمكنه أن يعمل فيها هي عناصر النجاح وعناصر والفشل في ذات الوقت.
مشروعية تدخل السلطة التنفيذية في القضاء ستبقى مثار شكٍ وريبةٍ في كل الظروف والأحوال والحالات، وهذا أمرٌ طبيعي، لكن هذه الريبة قد تتبدد إذا عبرت السلطة التنفيذية عن احترامها الشديد للقرارات القضائية، وفي مقدمتها قرار المحكمة الدستورية الذي حُلَّ بموجبه المجلس التشريعي، ودعت وفقًا للقرار ذاته إلى انتخاباتٍ تشريعية، وزادت عليه رئاسية، وأعلنت تجريمها لأي تدخل من أي شخصيةٍ تنفيذيةٍ في الأحكام القضائية، وأوقفت سياسة الاستقطاب التي تتم حاليًا في داخل الجسم القضائي، فبمثل هذه البيئة يمكن أن يتم إصلاح القضاء.
اقرأ/ي أيضًا:
هل سيُقايض القضاة استقلال القضاء بمنافع مالية؟