29-أكتوبر-2019

مقال رأي | 

ردود فعل غاضبة أثارها قرار محكمة الصلح في رام الله، بحجب مواقع إلكترونية. الحكومة من جهتها دعت "النائب العام وجهات الاختصاص إلى التراجع عن القرار". ورأت نقابة الصحفيين أن اليوم الذي صدر فيه القرار هو "يوم أسود" وطالبت باتخاذ الإجراءات اللازمة لنقض هذا القرار، ومراجعة الأساسات القانونية التي بني عليها.

       قرار القضاء بحجب مواقع إلكترونية، تزامن مع تضييق "فيسبوك" على المحتوى الفلسطيني    

منتقدو قرار الحجب أجمعوا على أن خطورته تكمن في أنّه صدر بالتزامن مع تعرّض عدد من المواقع ذات "المحتوى الفلسطيني" لنيران الحجب من قبل إدارة موقع "فيسبوك" التي طورت خوارزمية خاصة لحجب هذا المحتوى. 

ولعلّ هذا التوقيت الخاطئ لقرار محكمة صلح رام الله في الطلب رقم 12/2019 أجج ردة فعل الشارع الفلسطيني أكثر من غيره، لكونه يخالف توجهات القانون الأساسي الفلسطيني المعدل للعام 2003، وتوجهات الحكومة الفلسطينية، وقبل كل ذلك يخالف توجهات القضاء الفلسطيني نفسه، التي رسخها منذ عهد بعيد. 

ولو بدأت بمناقشة مخالفة القرار القضائي للقانون الأساسي، فإنني لا أريد أن أبحث في مخالفة هذا القرار لصريح نص المادة (19) من القانون الأساسي المعدل لسنة 2003، والتي جزمت بأنه "لا مساس بحرية الرأي، ولكل إنسان الحق في التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غير ذلك من وسائل التعبير"، وذلك لأن هذه المادة ناطقة بما فيها. ولكنني أود التطرق إلى ممارسة هذه الحرية، كونها من الحريات التي يسعى الاحتلال إلى طمسها، والمساس بها بكافة الطرق، كقتل الصحفيين الفلسطينيين، واعتقالهم، والتنكيل بهم، في محاولة منه لإسكات صوتهم الذي دأب على فضح جرائم الاحتلال.

وغني عن القول أن حرية الرأي والتعبير من أهم الميادين التي تتصارع بها الرواية الفلسطينية لقضية فلسطين مع رواية الاحتلال الصهيوني، لذا كان من البديهي أن يدرج المشرّع الدستوري الفلسطيني هذه الحرية مع حريات أخرى في ديباجة القانون الأساسي لـ "حث العالم على الاعتراف بها". فكيف سيعترف العالم بحرية الرأي والتعبير للفلسطينيين، في الوقت الذي لا تعترف بها بعض المحاكم الفلسطينية؟

       حرية الرأي والتعبير من أهم الميادين التي تتصارع بها الرواية الفلسطينية لقضية فلسطين مع رواية الاحتلال الصهيوني      

ولو أمعنا النظر في موقف الحكومة الفلسطينية، لوجدنا أن قرار محكمة صلح رام الله لم يكتف بمخالفة القانون الأساسي صراحة، بل خالف أيضًا توجهات الحكومة الفلسطينية، التي عبر عنها رئيس الوزراء محمد اشتية، حيث صرّح في كلمته التي ألقاها أثناء ورشة العمل التي نظمتها بعثة التعاون الفلسطيني - الأوروبي (Erasmus +) في فندق جراند بارك، في 16 تشرين ثاني/ أكتوبر، أن حكومته تسعى بشكل جاهد للحاق بركب الثورة الرقمية، مشيدًا بما وصلت إليه اليابان في هذا المجال، وداعيًا إلى التركيز على الاستثمار في هذا القطاع للحاق بركب الدول المتطورة.

وقد أثار قرار القضاء الفلسطيني استغرابًا لدى كثيرين، ودفعهم للتساؤل عن الكيفية التي ستُمكّن الشعب الفلسطيني من التحوّل إلى شعب يعتمد التكنولوجيا الرقمية في حياته، في الوقت الذي يتم فيه حجب صفحاته الرقمية. 

واللافت للنظر في قرار حجب المواقع الإلكترونية، ليس في مخالفته لتطلعات الشعب الفلسطيني المتجسّدة في وثيقة الدستور الفلسطيني، بل في مخالفته لما ذهبت إليه المحكمة الفلسطينية العليا بصفتها الدستورية في النزاع الذي وقع بين نواب كتلة الإصلاح والتغيير، ونواب حركة "فتح"، لقيام نواب كتلة الإصلاح والتغيير بإلغاء القرارات التي اتخذها نواب حركة "فتح" في المجلس التشريعي المنتهية ولايته في العام 2006 "جملة واحدة"، ما أثار حفيظة نواب فتح ودفعهم للطعن بالقرار أمام المحكمة العليا بصفتها الدستورية. 

وعندما فصلت المحكمة في الطعن المذكور الذي حمل رقم (1) لسنة 2006، قررت المحكمة العليا بتاريخ 19 كانون أول/ ديسمبر 2019 "عدم جواز القرارات والإجراءات رزمة واحدة". ولكن قرار الحجب شمل عشرات المواقع الإلكترونية جملة واحدة، وخالف بذلك قرار المحكمة العليا. 

        قرار الحجب أخذ "الصالح بعروى الطالح"، ولم يبق ولم يذر من الحقوق والحريات المكفولة بالدستور     

ومن ناحية أخرى، نظرت المحكمة في الإجراءات تدقيقًا، ما يخالف أبسط المبادئ الدستورية بضمانات التقاضي، والتي تشمل المحاكمة العلنية والحق في توكيل محامي، والحق في الرد على ادعاءات الخصم، وتفنيدها. 

وبذلك يكون قرار الحجب أخذ "الصالح بعروى الطالح"، ولم يبق ولم يذر من الحقوق والحريات المكفولة بالدستور. ولذلك، يعتبر قرار الحجب مخالفة صريحة وجسيمة لكثير من توجهات مؤسسات الشعب الفلسطيني وتطلعاته بالحرية والاستقلال. 

وعليه، فإنني أنظر بعين من الترقّب إلى نتيجة الطعن المحال إلى المحكمة الدستورية العليا بتاريخ 24 تشرين أول/ أكتوبر الجاري من المحكمة التي أصدرت القرار، ولا أود استباق قرار قضاة المحكمة الدستورية، ولكنني أتطلع إلى قرار يحمي الحقوق ويصون الحريات للجميع. 


اقرأ/ي أيضًا: 

وَهم التعديل القانوني في "الجرائم الإلكترونية"

خطيئة حجب المواقع الإلكترونية

يوم الحجب الأكبر