ذهبت إلى صديقي الطبيب مراد، كان زميلي في جامعة اليرموك، ورفيقي في السكن لسنوات، وشريكي السري في سرقة الفستق من سوبرماركت بغداد أيام توقّف المصروف الآتي من فلسطين بسبب ظرف الانتفاضة الأولى. كان مُنقذي من السجن (من خلال خاله المحامي الشهير) بسبب هذه السرقة العبثية والمأساوية، قال لي: اسمع، أنا أعرفك جيّدًا لا داعي لأن تسترخي أمامي وتبدأ بالبوح كما يفعل زبائني، لقد استرخينا أمام بعضنا البعض في ليالي إربد الجميلة أواخر الثمانينيات، هل تذكر؟
قلت له فقط: أنا أتجول باستمرار في المدينة بحثًا عن عرس لا أعرف أحدًا فيه، أدخله لساعة أو أكثر ثم أخرج، لم يسأل مراد لماذا أفعل ذلك!
نعم أذكر يا مراد، كنا نطفىء ضوء الغرفة الوحيدة في حيّ التركمان، ونفتح الشباك، وعلى ضوء القمر كُنّا نبوح ونقول خوفنا من الامتحان ومن المخابرات، وحلمنا الهستيري بوجبة مسخن تهبط من السقف، وشوقنا لرام الله ولحبيباتنا القديمات في مخيم قدورة وفي بيتونيا، هل تذكر؟ نعم أذكر يا زياد، وأذكر أيضًا أنّك كنت تطلب مني أن نغمض عيوننا ونعود إلى رام الله، معددين بدقة أسماء الشوارع والمحلات، كنّا نتطابق في معرفة أسماء الأمكنة، عدا مرة واحدة ضحكنا فيها طويلًا، حين تحديتني أيها اللعين أن أعرف ما اسم الشارع الذي يقع أمام سوبرماركت الترتير، وحين ذكرت لك اسم الشارع، أكدت لي أني غلطان، وحين أصرّيتُ عليك أن تذكر اسمه، قلت لي، إنّه الشارع الذي سقط فيه قلبي وتمزّق إربًا إربًا. ضحكنا كثيرًا، وكان بوحنا هذا اعترافات كاملة وكافية نستطيع أن نستخدمها لمعرفة حالتنا النفسية، خطورتها أو عاديتها.
لم أحك حكايتي بالتفصيل لمراد، قلت له فقط: أنا أتجول باستمرار في المدينة بحثًا عن عرس لا أعرف أحدًا فيه، أدخله لساعة أو أكثر ثم أخرج، لم يسأل مراد لماذا أفعل ذلك، كان يعرف أنني غير متحرش، ولا أبحث عن نساء، وكان يعرف أني لست شرهًا أبحث عن طعام الأعراس، كان يصمت عاجزًا عن التكهّن ويقول بهدوء: خذني معك إلى العرس القادم.
شهادة صديقي الطبيب مراد
هذا كاتب غريب يصدق الأدب الصادق، يثمل به ويتمثله وربما يصيره، قال لي إنه حين قرأ رواية "الحارس في حقل الشوفان" للأمريكي سالنجر، صار بطلها فورًا؛ هلودرن الأمريكي المراهق الحسّاس، الذي يعاني من أزمة عدم تحمّل كذب الناس وخداعهم. صار زياد خداش الفلسطيني الذي يطرد نفسه من كل مكان، ولديه حاسة شمّ غريبة لكل خدعة مخبأة في ثوب ابتسامة أو دعوة على قهوة، صدّقوني، صديقي هذا ليس مريضًا بالمعنى الطبي، هو فقط غريب تلك الغرابة الناتجة عن انهيار غير طبيعي أمام شخصيات الأدب الراقي، الغرابة التي تتحول أو تبدو وكأنها خبل أو سذاجة أو ضعف في العقل.
لديه حاسة شمّ غريبة لكل خدعة مخبأة في ثوب ابتسامة أو دعوة على قهوة
يتجوّل زياد في المدينة باحثًا عن الأعراس، يعزم نفسه عليها، فلا يكتشفه أحد بسهولة، فأهل العريس يظنّونه من أقارب أو أصدقاء أو أقارب أهل العروس، وأهل العروس يظنّونه من أقارب وأصدقاء وأهل العريس، فلا يستغرب وجوده هناك أحد، رافقته في أحد الأعراس بحثًا عن سرّه، رأيته يبتسم ويتنقّل من مكان لآخر ويتبادل مع العريس والعروس المصافحات والتبريكات، اضطررت لتكرار ما فعله، رأيته يتقدّم الصفوف بسرعة، واقفًا على بعد متر من العريس والعروس والأقارب، يراقب باهتمام غريب مشهد انهيار العروس أمام أبيها وسقوطها على يده تقبيلًا ودموعًا، رأيت دموعه وهي تسقط مع دموع العروس، رأيته يبكي، لم يره أحد غيري.
عُدنا من العرس صامتين، لم أكن قد قبضت على السرّ ولم أجرؤ على سؤاله، كان مستمرًا في البكاء غير المسموع، وقبل أن يودّعني عائدًا إلى بيته، سلّمني مظروفًا.
فتحت المظروف في البيت، كان فيه قصيدة "أغنية زفاف" لـ محمود درويش، بدأت أقرأ، بعد نصف ساعة كنت قبضتُ على السر.
"وانتقلتُ إليكَ، كما انتقل الفلكيّون من كوكبٍ نحو آخر.
روحي تُطلُّ على جسدي من أَصابعك العَشْر.
خُذْني إليك، انطلق باليمامة حتى
أَقاصي الهديل على جانبيك: المدى
والصدى. وَدَعِ الخيلَ تركُض ورائي
سدى. فأنا لا أَرى صورتي، بعدُ
في مائها... لا أَرى أَحدًا
لا أرى أحدًا، لا أراكَ. فماذا
صنعتَ بحريتي؟ مَنْ أَنا خلف
سًورِ المدينةِ؟ أُمَّ تعجنُ شَعْري
الطويلَ بحنّائها الأَبديّ، ولا أُخْتَ
تضفِرُهُ. مَنْ أَنا خارج السور بين
حقولٍ حياديَّةٍ وسماء رماديّة. فلتكن
أَنتَ أُمِّي في بلد الغرباء. وخذني
برفق إلى ممن أَكونُ غدا
مَنْ أكونُ غدًا؟ هل سأُولَدُ من
ضلعِكَ اُمرأةً لا هُمُومَ لها غيرُ زينة
دُنياك. أمْ سوف أَبكي هناك على
حجرٍ كان يُرشد غيمي إلى ماء بئرك؟
خذني إلى آخر
الأرض قبل طلوع الصباح على قمرٍ كان
يبكي دمًا في السرير. وخُذني برفق
كما تأخُذُ النجمةُ الحالمين إليها سُدىً
وسُدى
وسدىً. أَتطلَّعُ خلف جبال مُؤاب،
فلا ريح تُرْجعُ ثوب العروس. أُحبُّكَ
لكنَّ قلبي يرنّ برجع الصدى ويحنُّ
إلى سَوْسَنٍ آخر. هل هنالك حُزْنٌ أَشدُّ
التباسًا على النفس من فَرَ البنت
في عُرْسها؟ وأُحبك مهما تذكرتُ
أَمسِ، ومهما تذكرتُ أنّي نسيتُ
الصدى في الصدى
أَلصدى في الصدى، وانتقلتُ إليكَ
كما انتقل من كائن نحو آخر
كُنّا غريبين في بلدين بعيدين قبل قليل،
فماذا أكون غداةَ غد عندما أُصبحُ
اثنين؟ ماذا صَنَعْتَ بحُريَّتي؟ كلما
ازداد خوفيَ منك اندفعتُ إليك
ولا فضل لي يا حبيبي الغريب سوى
ولعي؛ فلتكن ثعلبًا طيِّبًا في كرومي
وحدِّق بخُضْرة عينيك في وجعي. لن
أعود إلى اُسمي وبرِّيتي، أبدًا.
أبدًا
أبدًا".
اقرأ/ي أيضًا: