في محاولة للاقتراب من تداعيات مرور 30 عامًا على توقيع اتفاقية أوسلو وانعكاساتها على الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، نحاور السياسي والكاتب عوض عبد الفتاح، والذي شغل منصب الأمين العام لحزب التجمع الوطني الديمقراطي حتى عام 2016، وكان نائبًا للأمين العام في حركة أبناء البلد في فترة ما قبل أوسلو.
تحاول المقابلة استكشاف الواقع السياسي الشائك للفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وتأثير اتفاقية أوسلو عليهم، خاصة بعد إقصائهم من التمثيل الرسمي في منظمة التحرير الفلسطينية، وإسقاط صفة الاحتلال عن أماكن تواجدهم، وتتطرق المقابلة إلى التحولات السياسية التي طرأت على خطاب الأحزاب الفلسطينية في الداخل نتيجة لاتفاق أوسلو.
عوض عبد الفتاح: الرواية الشفوية التي نقلها أبي وأمي عن فترة النكبة كانت مؤثرة، إذ كنت أرى والدتي تبكي باستمرار نتيجة فراقها القسري عن عائلتها التي هُجرت إلى لبنان
- دعنا نبدأ بتعريف مقتضب عنك
أنا عوض عبد الفتاح، من قرية كوكب أبو الهيجا. ولدت عام 1957، لعائلة لها أقرباء هجروا إلى خارج فلسطين، بعد سيطرة الحركة الصهيونية على البلاد. درست في مدرسة كفر ياسيف الثانوية، ثم التحقت ببرنامج اللغة والأدب الإنجليزي في جامعة بئر السبع.
عملت بعد التخرج مباشرة في مدرسة، بعد إلحاح أحد المدراء، رغم علمي بأن السلطات الإسرائيلية لن تسمح لي بذلك، وتم فصلي من العمل بعد نحو أربعة أشهر لعدم التزامي بالمنهاج.
في أوائل الثمانينات، انتسبت إلى حركة أبناء البلد، وانتخبت كنائب للأمين العام للحركة عام 1985، وعملت ومجموعة من المنتسبين على إعادة تشكيل الحركة الوطنية بشكل عام، وحركة أبناء البلد بشكل خاص، بتحويلها إلى حركة مركزية متماسكة، والتي كانت قد تأسست عام 1972 على يد مجموعة من المناضلين من مدينة أم الفحم، والذين نكن لهم كل الاحترام، كمجموعة حركات متفرقة لا يجمعها جامع إلا الهدف، وهو دولة ديمقراطية في كل فلسطين، واعتبارنا السكان في أراضي عام 1948 جزءًا من الشعب الفلسطيني، واعتبار منظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا لنا.
بعدها ذهبت إلى القدس لأكمل تعليمي، وكنت أسمع عن جريدة فلسطينية اسمها الفجر الإنجليزية، وكنت قد أرسلت لهم في السابق مقالًا عبر البريد يتحدث عن سيطرة إسرائيل على جهاز التعليم العربي وطمسها لهوية الناس، واستعمال جهاز التعليم كأداة للرقابة والسيطرة، فعُرض علي الانضمام للعمل فيها، رغم بعدي عن عالم الصحافة.
اعتقلت لاحقًا لعملي في الصحيفة، وضُربت بعنف شديد في إحدى المرات، ومنعت من الدخول إلى الضفة الغربية وقطاع غزة ووقعت على أوراق تفيد بذلك، وأخبروني أن وزير الأمن الداخلي يراني خطرًا على أمن الدولة. أكملت عملي في الصحيفة لعشر سنوات رغم المضايقات، وكنت ناشطًا سياسيًا في نفس الوقت.
بعدها، شاركت في تأسيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي، وعينت بداية كرئيس تحرير صحيفة فصل المقال الناطقة باسم الحزب لنحو عام، ثم انتخبت كأمين عام للحزب، وبقيت في موقعي حتى عام 2016.
اليوم، أنا أحد مؤسسي وناشطي حملة الدولة الديمقراطية الواحدة.
- حدثنا عن بداية نشاطك السياسي
منذ طفولتي، كان لدي حس وطني قوي، لم يكن وعيًا سياسيًا كاملًا عندما كنت مراهقًا. لكن على الأقل، كنت أعي أني فلسطيني، وهذه البلاد هي فلسطين، ويجب أن تتحرر، وياسر عرفات ومنظمة التحرير هما من يمثلاني. في أواسط السبعينيات، بدأت أقرأ عن الحركة الوطنية الفلسطينية وكيف نشأت الحركة الصهيونية، وكنت متأثرًا بولع الناس بجمال عبد الناصر.
أعتقد أن هذا كله بدأ من العائلة. الرواية الشفوية التي نقلها أبي وأمي عن فترة النكبة كانت مؤثرة، إذ كنت أرى والدتي تبكي باستمرار نتيجة فراقها القسري عن عائلتها التي هُجرت إلى لبنان، كما كان والدي يتابع إذاعة صوت العرب وصوت فلسطين. مع الزمن، صرت أشعر بالإهانة والهزيمة من قبل إسرائيل أكثر فأكثر. أذكر حينما كان عمري 13 أو 14 عامًا، وضعت علامة سوداء أنا وأصدقائي في المدرسة حدادًا على وفاة جمال عبد الناصر، لاحقتني الشرطة الإسرائيلية حينها وظللت هاربًا لفترة أسبوع ورفضت الذهاب لمركز الشرطة.
كنت ناشطًا في الجامعة، لكن لم أكن منتميًا لأي حركة سياسية حينها، إذ كنت في طور البحث عن الحزب أو الحركة التي تناسبني واعتقلت أثناء دراستي في الجامعة عندما شاركت في مظاهرة ضد مصادرة أراضي البدو الفلسطينيين في النقب، ودام اعتقالي لعدة ساعات. لاحقًا، دخلت العمل السياسي المنظم.
- ما الذي دفعك لاختيار حركة أبناء البلد؟
كانت حركة أبناء البلد، تتناسب مع رؤيتي الوطنية، وما تعلمته من والديّ، أن فلسطين بكاملها مستعمرة ويجب تحريرها. عندما تأسست أبناء البلد عام 1972 -كنت طفلًا حينها- شكلت امتدادًا للحركة الوطنية الفلسطينية في الخارج.
لم يرق لي الحزب الشيوعي الإسرائيلي حينها، بالرغم من بعض الأفكار اليسارية التي كنت أحملها، وبرغم تكويني لصداقات مع أعضاء داخل الحزب، فقد كانوا يعترفون بإسرائيل، ويطالبون بحل الدولتين، قلت لهم: "أنا لا أعترف بإسرائيل ولا أسعى لدولة في الضفة الغربية والقطاع. أطمح لكل فلسطين".
- هل كان ممكنًا الانضمام للحركات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، أو في الشتات، من داخل الخط الأخضر؟
بشكل سري، كان ذلك محظورًا وخطيرًا جدًا. كنت معجبًا بجورج حبش والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. راق لي مطلب الدولة الواحدة في كل فلسطين، ليعيش بها العرب واليهود بمساواة تامة، وتحرير فلسطين كلها.
- هل كنتم على تواصل مع منظمة التحرير؟
بالمجمل، انتقدنا منظمة التحرير لأنها لا تتواصل بصورة كافية، ولا باحترام يتناسب مع صوت الفلسطينيين داخل الخط الأخضر. كانوا يعتقدون أننا انخرطنا تمامًا بالمجتمع الإسرائيلي، وتغير الحال قليلًا بعد يوم الأرض عام 1976، إذ أظهروا تقديرًا أكثر للسكان هنا.
رغم تواصل أبناء البلد السري مع بعض الفصائل في مرحلة ما بالتاريخ، لم يطلب منها أي عمل عسكري، والتزمت بالعمل السياسي فقط، وبقينا نطالب بالدولة الواحدة على أنقاض نظام إسرائيل الاستعماري، وكان لدينا تواصل محدود، من خلال بعض المؤتمرات في الخارج.
بشكل عام، لم نكن يوما جزءًا من صنع القرار في منظمة التحرير. وحتى اليوم، نعتقد أننا مهمشون ومستثنون من القرار الفلسطيني. ولأكون دقيقًا، أعتقد أن المجتمع هنا لم يكن يطالب بذلك، خوفًا من القمع الإسرائيلي، كون ذلك يشكل خطرًا عليه، فهو ممنوع من ناحية قانونية.
طور الفلسطينيون في الداخل، تجربتهم بمعزل عن الحركة الوطنية الفلسطينية في الخارج، لكن بالتوازي معها دائمًا، ضمن خصوصيتنا طبعًا. لكن هذا لا يعني أنه لم نتأثر معنويًا وثقافيًا بالعزلة. كان الجمهور العام هنا يرى في ياسر عرفات والمنظمة ممثلًا لهم، وعلقوا عليهم آمال التحرير والخلاص. هذا كان في البدايات، تدريجيًا، اكتشفوا حجم العجز، وأنهم علقوا آمالًا كبيرة جدًا.
بعد اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل وعودتها للبلاد، بقينا خارج دوائر التمثيل السياسي، بالرغم من وجود بعض المشاورات واللقاءات. دعني أنوه هنا إلى انقطاع رغبتي لأن أكون جزءًا من منظمة التحرير بعد توقيعها اتفاقية أوسلو، إذ لم يعد ذلك أمرًا مشرفًا.
عوض عبد الفتاح: رغم تواصل أبناء البلد السري مع بعض الفصائل في مرحلة ما بالتاريخ، لم يطلب منها أي عمل عسكري، والتزمت بالعمل السياسي فقط
- هل تعاطى الناس بجدية داخل الخط الأخضر مع برنامج المنظمة نحو الدولة الواحدة ما قبل أوسلو؟
طبعًا. تأملت الناس بتحرير فلسطين بكاملها. ومع مرور الزمن وتراجع المنظمة والعرب بشكل عام، وبعد اتفاق التطبيع بين مصر وإسرائيل، الذي شكل ضربة كبيرة، تلاشى هذا الأمل تدريجيًا، وباتت الناس تركز على شؤونها في الداخل، وبدأ الفلسطيني يتعامل مع المواطنة الإسرائيلية بصورة جدية أكثر من السابق. لأنه في البداية، كانت الناس تناور وتساوم باعتبار أن إسرائيل دولة مؤقتة، وأن التحرير قادم، وظل هذا الجو سائدًا حتى بداية الثمانينيات ربما. فيما كان لهزيمة منظمة التحرير في لبنان عام 1982 تأثيرات سلبية كبيرة على همتهم وعزيمتهم.
- هل كان هناك انجذاب لفكرة المساواة مع اليهود، داخل الخط الأخضر، ما قبل أوسلو؟
دعني أحدثك عن بعض الأحزاب المحلية، كالحزب الشيوعي الإسرائيلي، إذ كانوا يرون في إسرائيل نظامًا ثابتًا وأبديًا، وأرادوا سلامًا مع العرب. لكنّ الجمهور العام البسيط، وحركة أبناء البلد والحركات الوطنية الجذرية، كانت تنظر إلى المنظمة وإلى الجماهير العربية أنها ستحرر فلسطين كاملة.
روج الحزب الشيوعي الإسرائيلي لفترة طويلة لشعار المساواة فقط، أي أننا مواطنون إسرائيليون للأبد، وإسرائيل قائمة ولا سؤال في ذلك، وحق تقرير المصير هو لليهود، مع دعم قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، واقتصر نشاطهم على تذكير حكومة إسرائيل دائمًا على الحاجة إلى تحقيق دولة فلسطينية مستقلة بجانبها.
دعني أشير إلى الأخطاء السياسية هنا. لم يعّرف الحزب الشيوعي ما هي "المساواة" وكيف نحققها؟ كيف تحصل المساواة بين الفلسطينيين واليهود، إن لم تتطرق لإلغاء يهودية الدولة؟ لم يتعمق الحزب الشيوعي في مسألة يهودية الدولة، والتي لا تسمح بتقبل المساواة بنيويًا، فالدولة اليهودية معادية أيديولوجيًا للمساواة بين البشر، إذ ترى أن الدولة هي لليهود فقط، ولأجلهم قامت، أي لم يقم بأي تحدٍ ليهودية الدولة. فيما كان الحزب يتحدى سياسة إسرائيل التمييزية، ويتعامل مع إسرائيل التي تميز ضد الفلسطينيين، كما يميز الألمان ضد الأتراك في ألمانيا، لا أكثر.
كانوا يراهنون على اعتراف إسرائيل بالمنظمة والفلسطينيين، ويرون في تحقيق المساواة داخل الخط الأخضر مهمة سهلة في المستقبل. من جانبنا، كنا نجادلهم أن هذا لن يحصل، وبالفعل يثبت الحاضر صحة ما كنا نقول.
رغم أنهم وفي تنظيرهم التاريخي، يذكرون أن إسرائيل هي نتاج للحركة الصهيونية، والحركة الصهيونية هي حركة استعمارية. لكنّ لم ينعكس هذا التنظير التاريخي على الممارسة، وظل هناك فصل بين الماضي والحاضر، أي أن إسرائيل دولة قائمة، وعام 1948 مر وانتهى. أمّا نحن في حركة أبناء البلد رفضنا ذلك كليًا، وتعاملنا طوال الوقت أن إسرائيل المستمرة هي كيان استعماري استيطاني.
لا أقلل من دور الحزب الشيوعي في دفاعهم عن القضية الفلسطينية، واللغة العربية، وأكن احترامًا لحزب الجبهة الذي انبثق عنهم. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لاحظت انزياحًا نحو الفلسطنة أكثر من الأسرلة، داخل الحزب، مما أدى لانسحاب بعض المنزعجين من التوجهات الجديدة.
- ماذا شعرتم في أبناء البلد عندما سمعتم بمحادثات مدريد بداية التسعينات؟ وكيف تعاطيتم مع برنامج النقاط العشر قبل ذلك؟
كنا ضد محادثات مدريد في أبناء البلد، وضد أي محاولة للمساومة والتفاوض مع إسرائيل، وآمنا أن على إسرائيل أن تهزم وتقوم الدولة الواحدة.
أما بالنسبة لبرنامج النقاط العشر، وتأسيس سلطة فلسطينية مرحلية، فبصراحة، تكيفنا معه، على أساس أنه حل مرحلي، وحتى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وافقت على البرنامج. لا يعكس ذلك قبولنا بحل دولتين بأي شكل من الأشكال، بل تعاملنا مع البرنامج كما روج لها باعتباره إقامة لسلطة مقاتلة على أي أرض من فلسطين، لاستكمال التحرير.
- كيف تلقيت نبأ إبرام اتفاق أوسلو؟
كنت في مطار في أثينا يومها، عائدًا من مؤتمر سياسي في فيينا، مع المرحوم القيادي السابق في الحزب الشيوعي صليبا خميس، واشترينا صحيفة عربية، وقرأنا فيها خبر الاتفاق وإقامة سلطة حكم ذاتي، صدمت وغضبت كثيرًا حينها.
كنا في حركة أبناء البلد ضد ما حصل في أوسلو بشكل كامل، والحركة الإسلامية كذلك، التي كان أحد أسباب انقسامها إلى شمالية وجنوبية اتفاق أوسلو والموقف منه، إضافة لمسألة دخول الكنيست.
- ألم تلتمس عذرًا لمنظمة التحرير، مع إبعادها من لبنان إلى تونس، وابتعادها عن محيط فلسطين؟
الأخطاء تراكم أخطاء أخرى، تبين حينها أن اتفاقية أوسلو سبقها أخطاء أخرى للمنظمة في لبنان، فيما يتعلق بإدارة الصراع، وإدارة العلاقات الداخلية داخل منظمة التحرير، وبينها وبين الحركة الوطنية اللبنانية.
كانت حالة محزنة ومبكية. لكنّ، لا شيء في الدنيا يبرر الاعتراف بعدوك المُستعمِر، ومنحه كل أوراقك، والتنصل من المقاومة واعتبارها إرهابًا، والقبول أن تكون محكومًا للأبد، وأن تتخلى عن جزء أساسي من الشعب الفلسطيني، خاصة سكان أراضي عام 1948، وأن تتنازل عن جدال أن كافة مساحة فلسطين هي مُستعمَرة، واعتبار إسرائيل دولة طبيعية. أين حركة التحرر من هذا؟ عندما درست تاريخ الاستعمار، لم أعرف أي حركة تحرر وطني قدمت هذا الحجم من التنازلات دون أن تحقق الحد الأدنى من مطالبها.
حل الدولتين، هو تنازل كبير جدًا وغير مقبول، ويا ليتهم حصلوا عليه أصلًا، لا مبرر إطلاقًا. لا مشكلة في البقاء بالمنفى، فالشعب الفلسطيني سيخلق قيادته حتمًا. شعبنا خاض انتفاضتين ولديه القدرة على البناء من الداخل.
- هل قمتم بأي تواصل مع منظمة التحرير بعد أوسلو وعودتها إلى الضفة الغربية وغزة؟
نعم، صار هناك تواصل أكبر مقارنة بما سبق. رغم إعلاننا في التجمع موقفنا ضد أوسلو، إلا أننا حافظنا على التواصل، على الأقل لإسماع رأينا وسماع رأيهم، استمرينا في نقد أوسلو.
في فترة لاحقة، بات التيار المتنفذ في المنظمة ينتظر من الفلسطينيين داخل الخط الأخضر أن يصوتوا لحزب العمل الإسرائيلي، لدعم مسار "السلام" كما أسموه، كون الحزب هو من قاد أوسلو، وبالنسبة للمنظمة هو الطرف الأسهل للمفاوضات.
هل تطلب مني أن أصوت لحزب صهيوني لتحقق دولة في الضفة والقطاع، وتقوم بتكريس الأسرلة؟ لقد كان أبو مازن هو قائد هذه الحملة الدعائية، ضمن جهود لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي.
- ما الذي حل بالجماهير الفلسطينية بعد أوسلو؟ هل تلاشى خيار تأسيس الدولة الواحدة، مقابل طرح حل الدولتين الجديد؟
أوسلو رسخ ما تقول بشكل عميق جدًا، لكن هناك إجابة أطول قليلًا لهذه المسألة.
بعد انتصارات إسرائيل المتتالية، وسيطرتها على الضفة الغربية وقطاع غزة، انخفضت القبضة الأمنية قليلًا داخل الخط الأخضر، أي على أهل البلاد، وتركتهم إسرائيل يتنفسون قليلًا، وانعكس التطور الاقتصادي الإسرائيلي جزئيًا على العرب الفلسطينيين، فنشأت طبقة وسطى صغيرة، من متعلمين جامعيين ومثقفين، وتزامنًا مع أحداث مختلفة، تشكلت لجان أو حركات فلسطينية أخرى، وبدأت تنظر لملف المواطنة الإسرائيلية بجدية أكبر، وزادت المطالبة في المواطنة المتساوية، "نعم نحن فلسطينيون، لكن نريد حقوق مواطنتنا".
تدريجيًا، أدى هذا التطور الاقتصادي إلى انعكاسات ثقافية وسياسية في السلوك الفلسطيني داخل الخط الأخضر، وصار هناك توازٍ بين هوية الفلسطينيين الوطنية والمواطنة الإسرائيلية، أي خطوط متوازية لا يلغي أحدهما الآخر. وبعد أوسلو، أدرك الناس أن "إسرائيل ونظامها ثابتين إلى الأبد، وعليهم أن يتعاملوا بواقعية أكثر".
في فترة أوسلو، كانت الناس يائسة وبعضهم كان قد تقبل العيش مع إسرائيل، وطور أعمالًا مرتبطة بها، واعتاد على الواقع الجديد، وعندما سمعت تلك الشرائح بأوسلو، شعروا بانفراجة جديدة قد تحصل، وكان الاعتقاد "طالما صار سلام مع منظمة التحرير، التي كانت إسرائيل تعاديها وتغتال عناصرها، قد نصبح اليوم أقل عرضة للقمع داخل الخط الأخضر".
الناس لا تمتلك دائمًا وعيًا تامًا، خاصة إن كانت متعبة ومرهقة للغاية، وتحتاج لمن يؤطر هذه الأفكار. ففي تلك الفترة، ارتأينا أن نحدث تغييرًا في سياساتنا كأبناء البلد، وأن ندرس ما يمكن أن نفعل بعد هذا الاتفاق.
فكان على حركة أبناء البلد أن تؤطر ذلك التيار سياسيًا وأيديولوجيًا، وأن تقول للناس: "يا عمي لن تتحقق المساواة لكم هنا، ولن يتحقق حل للفلسطينيين في الضفة وغزة، واللاجئين في الخارج، إلا عندما تعترف إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره، وإلغاء البنية الراسخة التي تعزز الاستعمار والتمييز العنصري". كنا نذّكر الناس أن إسرائيل هي مشروع استعماري استيطاني، ونظام عنصري، ونظام أبرتهايد، ما لم يلغ ذلك.
فكان على عاتق بعض النخب السياسية أن تحدث شيئًا ما، وهو ما سأشرحه لك بعد قليل.
عوض عبد الفتاح: الأخطاء تراكم أخطاء أخرى، تبين حينها أن اتفاقية أوسلو سبقها أخطاء أخرى للمنظمة في لبنان، فيما يتعلق بإدارة الصراع، وإدارة العلاقات الداخلية داخل منظمة التحرير، وبين المنظمة والحركة الوطنية اللبنانية
- تقصد تأسيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي.
دعني أذكر أننا في حركة أبناء البلد، كنا نرى أنفسنا جزءًا من الحركة الوطنية الفلسطينية، والحركة العربية التحررية عمومًا، وبل وحتى التيار التحرري اليساري العالمي. بعد كل الهزائم الفلسطينية والعربية والعالمية، أدركنا أننا نحتاج إلى إعادة نظر في كيفية التعامل مع التطورات الجديدة. واكتشفنا أن حركة أبناء البلد لم تكن مدركة للتحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي كانت تجري داخل المجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر، كنتيجة للعيش تحت مظلة المواطنة الإسرائيلية، والاعتماد على الاقتصاد الإسرائيلي، فهذا أنتج شريحة أكبر من الطبقة الوسطى، وأفرز وعيًا سياسيًا مختلفًا ومتمايزًا عن الوعي الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي الشتات.
العيش داخل المنظومة الإسرائيلية بشكل مباشر ولعشرات السنوات أنتج شيئًا ما، خاصة مع الجيل الثاني ثم الثالث، فالناس صارت تتعامل مع إسرائيل كأمر واقع، وتريد تحصيل حقوقها المدنية. وفي نفس الوقت، نتحدث نحن في الحركة عن تحرير فلسطين، قالت الناس "لا مانع لدينا، لكن نريد أن نعيش، نريد كهرباء، نريد تعليمًا، نريد الخدمات من وزارة الداخلية..".
كنا نحتاج في أبناء البلد، وعزمي بشارة بعد تركه للحزب الشيوعي الإسرائيلي، ومجموعات وشخصيات سياسية أخرى، إلى بوصلة جديدة. ففي الوقت الذي اعترفت فيه منظمة التحرير بإسرائيل، وانهار العالم العربي، لا يصح أن تواصل الحديث من الداخل الإسرائيلي، وكحركة صغيرة، بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر كشعار نظري فقط، دون أية صلة بالواقع الجديد.
كيف سيواصل الناس سماعنا؟ كيف يأخذوننا بجدية؟ بدأنا نفكر، وعشنا سنتين من النقاشات المشتعلة، وصرنا نتصارع داخل أبناء البلد، بل وداخل مختلف المجموعات السياسية التي كانت تفكر معنا، كيف نخرج من هذا الوضع؟ عشنا لسنوات مقاطعين للكنيست. قلنا حينها إن هذا الخيار قد لا ينفع بعد ذلك، وخشينا أن الناس ستذهب تلقائيًا إلى التصويت في الكنيست، خاصة بعد أن عزز أوسلو أنهم إسرائيليون. وخشينا أيضا من تجنيد الأحزاب الصهيونية لأبنائنا.
سألنا أنفسنا: لماذا لا نشكل حزبًا وطنيًا لكسب هذه الجماهير المتجهة نحو الكنيست، بدلًا من أن يتوجهوا نحو الأحزاب الصهيونية. من هنا بدأنا، كشخصيات ومجموعات سياسية عديدة، بالتفكير في كيفية إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية من جديد.
كنا نتناقش في إمكانية بناء ائتلاف وطني لدخول الكنيست، أو حزب. حينها، حصل تواصل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأخبرناهم أننا نخشى أن نعزل عن الناس داخل الخط الأخضر وأننا لا نريد أن نخسر إيمان الناس بنا وبواقعيتنا، المشاركة في انتخابات الكنيست بات شيئًا طبيعيًا للسكان هنا، إذ اعتادوا على التصويت.
أخيرًا، وفي أبناء البلد، قررنا، أن نشارك ببناء الائتلاف الجديد، دون أن نذهب كحركة إلى الكنيست، واحترمنا رغبة من يفضل مواصلة مقاطعة الانتخابات، بعد تشاورنا مع الجبهة الشعبية، قالوا لنا إن كنا نرى من ذلك طريقًا سليمًا بعد كل تلك الانهيارات، فليكن.
عام 1995-1996، تشكل أخيرًا حزب التجمع الوطني الديمقراطي وأعلن عنه. وقلنا إن أراد بعض الأشخاص الترشح الآن، وإن آمنوا أن بإمكانهم الحفاظ على البوصلة، وعدم انغماسهم بالكنيست، وألا يروا منه بيتًا لهم يومًا ما، فليذهبوا للترشح، وهكذا فعل عزمي بشارة، وكان أول مرشح لنا. فاجئنا لاحقًا بمدى صدامه مع المؤسسة الإسرائيلية من الداخل، وبمدى حفاظه على التوازن، كان هو رئيس الحزب، وكنت الأمين العام.
- الدخول للكنيست كان تنازلًا أو مساومة؟
بلا شك، مجرد الدخول للكنيست هو مساومة، حياتنا كلها تحت المساومة هنا في البلاد، لكن إن حافظت على بوصلتك ووعيك أن إسرائيل هي دولة استعمارية صهيونية يهودية، لا يمكن أن تقبل بادعاء المساواة إلا إذا تم هدم نظامها من الداخل.
نظريًا، كنا نروج ونقول إن إسرائيل يجب أن تفكك من الداخل في تلك المرحلة، خاصة بعد أن أمضينا سنوات نصارع إسرائيل كحركة وطنية فلسطينية من خارج نظامها، باعتبارها كيان استعماري. الآن، مع المرحلة الجديدة، لم يعد ينفع ذلك التوجه واخترنا أن نتحدى يهودية الدولة من الداخل. كان خطابنا أننا فلسطينيين، ونريد مساواة كاملة، لكن منظورنا للمساواة ارتبط بالمطالبة بتفكيك يهودية الدولة، وأن تصبح دولة ديمقراطية لكل الناس. طبعًا هذا يعني أننا استندنا إلى المواطنة، والتي لم نكن نتعامل معها بجدية سابقًا، واستعملناها كسلاح. كان ذلك تحديًا، أكثر من مطلب، لم يكن يومًا رؤية نهائية، ولم نكن سذجًا لنعتقد أن إسرائيل ستقبل ما نقول.
وكملاحظة هامشية، دعني أقول إنني شخصيًا لم أترشح للكنيست حتى نهاية فترتي عام 2016، إذ لم أتمكن من تقبل ذلك نفسيًا، وبأمانة، لم يكن ذلك هدفًا شخصيًا لي يومًا ما.
- ألا ترى من هذا التحول انصياعًا لأوسلو، أي برنامج التجمع السياسي لـ"تحويل إسرائيل إلى دولة ديمقراطية، وإقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967"؟
كنا نضع قضية اللاجئين كشيء أساسي أمام أعيننا. وعندما نقول إننا نريد تحويل إسرائيل لدولة ديمقراطية، نقصد ضمنيًا إنهاء نظام إسرائيل الاستعماري، ودعني أقول لك إن إسرائيل أحست بذلك حينها. مثلًا اتفاق أوسلو، لم يتطرق لطبيعة دولة إسرائيل، نحن في التجمع، لم نقبل بإسرائيل كما هي، لكن أوسلو فعل، أعني أن أوسلو اعترف بها كدولة طبيعية وأقر أن نعيش داخل الخط الأخضر إلى الأبد تحت هذا النظام الصهيوني الأبرتهايدي.
اتفاق أوسلو شرع التمييز ضدنا، وشرع دونيتنا الأبدية. لكن لم نستسلم لأوسلو، ولم يكن لنا خيار سوى البداية في تحدي إسرائيل من الداخل. بعد السقوط العسكري لنا كفلسطينيين، لم نجد أداة سوى المواطنة، وأردنا التحدي، وطموحنا كان توعية شعبنا، وتجنيب الناس الدخول إلى الأحزاب الصهيونية في سبيل طلب المساواة، قلقنا عليهم من خسارة هويتهم الوطنية، وأن يصل بهم الحال للانخراط في صفوف الجيش الإسرائيلي.
عرضنا عليهم حزب التجمع، والذي يرفع لواء الوطنية، ويرفع لواء المواطنة المتساوية التي يطمحون لها، وقلنا إننا نهتم وننتبه لهمومكم الحياتية اليومية. أحيانًا، لا يمكنك بناء حركة وطنية دون أن تعالج هموم الناس.
الخيارات كانت محدودة، الخيار الأول، هو المحافظة على خطنا السياسي دون أي تغيير، كحركة وطنية صغيرة محدودة التأثير، وبهذا ستحافظ على بعض الشخصيات النقية، التي تزعج إسرائيل بحديثها بين حين وآخر. أو الخيار الثاني، وهو أن تصنع شيئًا ما بين أوسلو، وبين خطابك الأصلي، كتكتيك، ولهذا أسميناه "مشروعًا اعتراضيًا" بالمناسبة. أردنا من الناس ألا تعترف بإسرائيل، وأن تواصل نقاش الصهيونية ويهودية الدولة والعنصرية، وإلّا تتقبل أوسلو. كما قلت لك، أردنا الاقتراب من هموم الناس. في السابق، كنت أرى من هموم الناس اليومية شيئًا تافهًا مقارنة مع تحرير فلسطين. لاحقًا، ارتأينا أن هذا لا يمثل طريقة تفكير الناس، ولم نرد من الجماهير أن ترى منا مجرد "مرددين للشعارات".
هذا مركب جدًا، أعلم ذلك، وفيه انعكاس لتعقيد صراعنا مع إسرائيل. صدقني أن هذا النقاش دار لمدة تقارب السنتين حتى استقرينا على هذا الموقف. بالنسبة لي شخصيًا، كان ذلك مؤلمًا جدًا، كانت معاناة داخلية. اعتدت لسنوات أن أدخل بيوتًا وأشجع الناس على عدم التصويت، والآن، أدفعهم نحو التصويت.
هل يجب أن أحافظ على طهوريتي الشخصية وأتيح المجال أمام القوى الانتهازية لتسيطر وتدجن أبناء شعبي؟ تلك كانت هي المعضلة والسؤال.
بالنسبة لسؤالك، فهو عادل ويمكنك التفكير بالمسألة من باب الجدل النظري. دعني أشير لك أن عزمي بشارة وضح مرارًا أن ما فعله ليس تجسيدًا لأوسلو. على الأرض، كنا نواجه الجرافات الإسرائيلية، وحافظنا على التوازن بين العمل الشعبي والعمل البرلماني.
لا يمكننا النظر للمسألة بسطحية، تذكر أننا نطالب بتفكيك نظام إسرائيل من الداخل. حاربتنا الدولة الإسرائيلية مرارًا بعد فهمها لآلية عملنا. قالوا لنا: "أنتم لا تعترفون بدولة إسرائيل، وتقومون بخداعنا"، وعملوا على إخراجنا عن القانون عدة مرات، وشطبنا من الانتخابات. وصلتنا رسالة إلى صحيفة حزب التجمع يومًا قيل فيها: "من يحاول تقويض دولة إسرائيل بأدوات قانونية سيحاسب أيضًا".
لم يؤمن عزمي بشارة بإمكانية تطبيق ما يعرف بحل الدولتين. كان الكثير من الأعضاء يؤمنون إيمانًا تامًا بعدالة حل الدولة الواحدة للجميع. مع الهزيمة التي عشناها، خاصة ما بعد أوسلو، لم يكن لدينا إلا هذا الخيار الالتفافي.
- ألم يكن هناك مجال لإبقاء طرح الدولة الواحدة، والابتعاد عن ما قد يُفهم باعتباره تقبلًا لأوسلو، من خلال ترشحكم للكنيست؟
داخليًا كأعضاء، كنا نتحدث بذلك، أما في البرنامج السياسي، فهو غير مسموح. يمكنك التلميح إلى ذلك، لكن لا يمكنك إعلان ذلك بصراحة. عام 1998، أرادوا شطب قائمة التجمع، وأخبرني المحامي أنهم استعانوا بكراسة نشرت باسمي الشخصي، وترجموها للعبرية، وقاموا على إبراز المواضع التي لا أعترف فيها بإسرائيل، وأدعو للدولة الواحدة. استعملوا ذلك ضد حزب التجمع، كوني كنت أمينه العام، حتى لو كتبت ذلك بصورة شخصية.
كأمين عام، كنت دائما أكتب في هذا النهج. وكان عزمي بشارة يتحدث به دائمًا. لكن رسميًا، لم يكن ذلك متاحًا، لأننا كنا نترشح لانتخابات الكنيست، ولا نريد إقصائنا قانونيًا.
عوض عبد الفتاح: نحن في التجمع، لم نقبل بإسرائيل كما هي، لكن أوسلو فعل، أعني أن أوسلو اعترف بها كدولة طبيعية وأقر أن نعيش داخل الخط الأخضر إلى الأبد تحت هذا النظام الصهيوني الأبرتهايدي
- ألم تخف من زرع أدبيات أوسلو وحل الدولتين داخل الخط الأخضر، بهذا البرنامج السياسي؟
لا، أعتقد أننا كنا نزرع التمرد في عقول أبناء شعبنا. بعيدًا عن الكنيست، كنا نخلق حالة تمرد في الشارع. مثلًا، عام 2000، حين استشهد 13 فلسطينيًا في أراضي 1948، أصدر الشاباك بيانًا مفاده أن من يتحمل المسؤولية هما الحركة الإسلامية والتجمع، وذكروا أنه شوهدت قيادات التجمع في كل المظاهرات. على ماذا يدل هذا؟ كانت إسرائيل تعي أن هذا البرنامج، والذي قد يظهر شبيهًا لأوسلو، يخلق حالة تمرد على الصهيونية، ويستأنف النضال ضد الاستعمار، بعد أن توقفت سلطة أوسلو، ومنظمة التحرير، عن مناهضة الصهيونية. ولهذا، تعرضنا لملاحقات عديدة كحزب.
- لو كان بيننا الآن أحد ممن يبررون اتفاق أوسلو، لقال "أيضًا كانت لدينا ظروف صعبة حين غيرنا نهجنا ووقعنا أوسلو، إذ كنا في حالة ضعف، وخشينا على القضية والمنظمة من الاندثار، وأردنا أن نطرق بابًا، ولو كان شائكا، من باب التجربة"، ما رأيك؟
لا أعتقد أن هذه مقارنة عادلة. بداية، ما فعلناه كان نتيجة فرضت علينا بعد أوسلو، والذي لم نكن شركاءً في صنعه. هناك فرق كبير بين حزب صغير كأبناء البلد، يتمركز داخل دولة معترف فيها دوليًا، وبين حركة تحرر تقود شعبًا وتمثل ملفه السياسي. عندما تقود شعبًا، التنازل غير مقبول، نحن حزب صغير، ولم نمثل الشعب الفلسطيني بأكمله كالمنظمة.
المنظمة تنصلت من المقاومة واعترفت بالدولة الصهيونية كدولة طبيعية، هذه بنود غير مقبولة. هل سمعت بحركة تحرر في العالم قبلت بما قبلته حركة التحرر الفلسطيني؟ تذكر أنه داخل الخط الأخضر، كنا أحد ضحايا هذا المشروع، واضطررنا للتعامل معه بطريقة ما.
أما نقدي تجاه التجمع اليوم، أن عليه أن يتجاوز ما وصل إليه، وأن يبرز الدولة الواحدة في الصياغة، وليس فقط في أحاديث أعضائه الجانبية. أعي أنهم قد يرغبون بذلك، لكنهم يخافون أن تتم مطاردتهم أو أن يخرجوا عن القانون، كالحركة الإسلامية. فعندما استقلت، كنت أرغب بأن لا أحملهم ضغطًا أكثر، خاصة مع فترة ضعف الأحزاب عمومًا، فابتعدت وأخذت حرية العمل في إطار حملة الدولة الديمقراطية الواحدة.
- لماذا لم تعمل على ذلك أثناء فترتك في حزب التجمع؟ وهل هناك إمكانية قانونية؟
أعتقد أن هناك إمكانية. بتقديري، لا حاجة للبقاء في الكنيست. إن أخذوا قرارًا بالبقاء، فعليهم أن يصادموهم ببرنامج الدولة الواحدة. يمكنهم المطالبة مثلًا بالديمقراطية بين النهر والبحر، وإبراز ملف السكان الذين لا يجوز لهم التصويت في الضفة الغربية وقطاع غزة، هناك فرصة للعب هذه اللعبة.
كنت دائمًا أحاول الحديث عن الدولة الواحدة، حتى خلال فترتي مع التجمع، لدرجة أن ذلك كان يضايق البعض. فعلت ذلك عمدًا لمحاربة تآكل الوعي الذي يحدثه الزمن. عام 2009، قدمت ورقة مطولة حول الدولة الواحدة للجنة المركزية للتجمع لمناقشتها، سعيًا لتطوير البرنامج السياسي للحزب. بعد عامين، أصدرت الورقة في كتيب للدعوة لبرنامج الدولة الواحدة مجددًا بشكل واضح.
أوسلو دمرنا، ذبحنا ذبحنا، وقضى على نفسيتنا ومعنويتنا. ردنا على أوسلو كان إقامة التجمع. تلك كانت ظروف المرحلة.
- هل شعرت بأي ندم تجاه ذلك التغيير؟
عندما أراجع، أقول إنه جاء خلال فترة ضعف عام لنا كحركة، وكنا على وشك أن نختفي، وحاولنا أن نكون في قمة الإبداع. أتمنى أن يكون ذلك درسًا لكل سياسي فلسطيني، وحتى كناشطين، ليتعلموا كيف يمكن في ظروف مركبة معقدة كهذه أن يبنوا معادلة مركبة معقدة تستجيب للوضع، وكانت مجابهة ناجحة وفاعلة.
إن فكرة مواجهة واقع مركب، بدون سذاجة أو بساطة، هي عين المسؤولية. وعندما أفكر بالأمر، أعتقد أنه لو كان هناك حالة ثورية، لكان من الخطأ الذهاب نحو الكنيست.
لست نادمًا، لكنني منزعج وغاضب أن التجمع لم يتمكن حتى الآن من أن ينتقل إلى مرحلة يعتبر فيها نفسه جزءًا من الحركة الوطنية الفلسطينية عمومًا، ويطرح رؤية الدولة الواحدة مجددًا، خاصة أن إسرائيل لم تعد تعطي شيئًا للفلسطينيين، بل سبقتنا نحو اعتبار كامل فلسطين هي إسرائيل.
ينبغي على الحركة الوطنية الفلسطينية أن تترك حل الدولتين، وتهجره كليًا، لأن إسرائيل لا ترغب بدولتين، ولا حل دولة، فإذا لماذا أتنازل؟
- ألاحظ مواصلة السلطات الإسرائيلية لسياسات التضييق، التهجير، والترحيل بحق السكان داخل الخط الأخضر حتى اليوم. وفي السنوات الأخيرة، تهدم الحكومة الإسرائيلية مبانٍ أكثر بأربع أو خمس مرات سنويًا داخل الخط الأخضر مقارنة بكامل الضفة الغربية. هناك أحياء كاملة، كحي العجمي في يافا، مهددة بالتهجير لماذا لا نسمع بهذه الأنباء عبر وسائل الإعلام؟
العالم بشكل عام مشغول بحروب عديدة، والقضية الفلسطينية صارت أكثر تهميشًا. هناك حروب وسفك دماء في كل مكان، والبعض يرى حروبًا في المنطقة أكثر دموية مما تفعله إسرائيل. تزامنًا مع ذلك، الحركة الوطنية الفلسطينية في تراجع عمومًا، والسلطة الفلسطينية لم تتحدث يومًا عن قضايا الفلسطينيين داخل أراضي عام 1948، ولا حتى على الصعيد الدبلوماسي.
التقيت مرة بالمفاوض صائب عريقات، وسألته عن شعوره بعد استثنائنا من الشعب الفلسطيني، في أعقاب اتفاقية أوسلو وإن تحدثوا مرة عن ملفات أراضي عام 1948. بالطبع، لم يجب.
لقد تُرك الناس وحدهم فترة طويلة. لكن العديد من مؤسسات المجتمع المدني، والمجموعات السياسية، تبذل جهدًا لمواصلة طرح ملفاتنا كجزء من ملفات الشعب الفلسطيني المجابه للاستعمار.
- في أيار 2021، خرج آلاف الشبان والشابات داخل الخط الأخضر حاملين الأعلام الفلسطينية لمجابهة الدولة الإسرائيلية، كيف حدث ذلك في ظل تراجع الحركة الوطنية؟
هذه نتائج وحشية إسرائيل المستمرة، وسد الأفق أمام الناس. أحيانًا أقول إنه من الجيد أن لدينا بنيامين نتنياهو، فلولاه، لكنا تأسرلنا بشكلٍ أسرع.
انظر إلى الدروز، والذين بمعظمهم يوالون الدولة، إذ احتجوا على قانون القومية العنصري مؤخرًا. القيادة الإسرائيلية الحالية أمنية رعناء. في الماضي، كانوا يقمعون بذكاء. اليوم، إما أن تستسلم وتكون عبدًا، أو نقمعك.
أعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي تحقق الكثير، عندما شاهدت مظاهرة تخرج من قريتي كوكب أبو الهيجا عام 2021، تفاجئت من شبان وشابات لا أعرفهم جيدًا، من نظم هؤلاء؟ دائمًا نتفاجئ بمجتمعنا.
في مدن كاللد، والتي يسمونها "مدينة مختلطة"، وأسميها "مدينة محتلة"، هناك مستوى آخر من الفقر والبؤس، وهناك مجموعات استيطانية تضرب، كما في عكا وغيرها. لقد أنهكوا السكان الفلسطينيين. في القرى، على الأقل، قد يكون هذا الجانب أخف وطأة.
أعتقد أن الشعور الديني هو عامل أيضًا، فعندما يتعلق الأمر بانتهاكات في المسجد الأقصى، يخرج الكثيرون.
لقد أظهرت هبة أيار 2021 أثر التراكمات على مجتمعنا، الأمر السلبي أن لا مرجعية للناس، وليست هناك أطراف تراكم وتستثمر ما يجري. الناس الآن تبدو هادئة، لكنها قد تكون بانتظار الهبة القادمة.
لكن، بشكل عام، أرى الشعب الفلسطيني يلتحم ويقاتل سويًا يومًا ما. لا تعطينا إسرائيل خيارًا آخر، فهي تقول إن كل فلسطين لها، وعلى كل فلسطيني أن يرحل أو يتم التضييق عليه. إجباريًا، تصبح الناس في نفس الخانة المقاتلة، عاجلًا أم آجلًا، ما عدا أولئك الذين يعجبون بالدولة الإسرائيلية، وهم موجودون في كل حالة استعمارية.
- هل هناك رعب إسرائيلي من عدم تشرب الأجيال الشابة داخل الخط الأخضر لمفاهيم أوسلو؟
بالتأكيد، هناك نوع من الخوف والرعب لديهم. إسرائيل ترى القوة الكامنة في هذا المجتمع الفلسطيني بمختلف أماكن تواجده، وترى منه تهديدًا لنظامها. ومن هذا الباب، جرت حملة قمع واسعة بحق الأفراد والمؤسسات داخل الخط الأخضر مؤخرًا، للمحافظة على استعمارها المتوحش، دون إعطاء أي حل عادل للسكان.
- بعد استقالتك من منصبك في حزب التجمع، تفرغت لحملة الدولة الديمقراطية الواحدة، حدثنا عنها من فضلك.
بداية، حل الدولتين هو حل ظالم وغير منطقي وتقسيمي. الحل الأكثر عدالة للجميع هو الدولة الديمقراطية الواحدة، وهذا هو المشروع الوطني الفلسطيني الأصيل، والذي ينبغي تحديثه وتطويره الآن.
الحملة بقيادة فلسطينية، وفيها العديد من رفاقنا اليهود المناهضين للصهيونية، على رأسهم إيلان بابيه وجيف هالبر وآخرون، وهم شاركوا في التأسيس.
بعد أوسلو، صار خطاب الدولة الواحدة منبوذًا ومهمشًا. الآن، ألمس تعاطيًا معه بجدية أكثر. ونطمح أن يكون جزءًا من الخطاب الرسمي والشعبي مجددًا، لينتج لاحقًا حركة شعبية واسعة عابرة للحدود عابرة، وهذا ما نعمل عليه.
اقرأ/ي: باختصار.. ما هو حل الدولة الواحدة؟
- ما هي أدواتكم؟ كون القانون الدولي، ما بعد الاستعماري، لا يخدمكم في طرح الدولة الواحدة.
ندرك أن القانون الدولي هو حصيلة توازنات استعمارية بين الدول، ونحاول الالتفاف على ذلك، فقد يكون هناك ثغرات. مثلًا، إذا ما استندنا لقرار التقسيم 181، فإسرائيل بتوسعها الحالي هي غير قانونية. أعي أن ذلك يؤدي إلى حل دولتين مختلف أيضًا، لكني أعطيك مثالًا. قبول إسرائيل في عضوية الأمم المتحدة مثلًا كان مشروطًا باحترام السكان المحليين، وهو ما لا تراعيه إسرائيل بإعلان نفسها دولة يهودية اليوم.
أدرك تمامًا أن القانون الدولي لا يشرع إلغاء النظام الاستعماري الإسرائيلي من المنطقة، لكن من كان يتخيل أن توسم إسرائيل بين البحر والنهر بنظام أبرتهايد؟ هذا ما حصل مؤخرًا. هناك تطورات إيجابية، وقد نستطيع تغيير توازنات القوى يومًا ما.
ما نطرحه هو دولة ديمقراطية إنسانية، يعيش فيها الجميع، مقارنة بدولة يهودية عنصرية، علينا إحراج دول العالم بدعمه للاستعمار والأبرتهايد بدلًا من طرحنا.
لقد تم إقناع الفلسطينيين يومًا ما بترك خطاب الدولة الواحدة وتبني حل الدولتين، والآن، أثبت أنه وهم. لماذا لا نجدد أنفسنا وخطابنا كالإسرائيليين، الذي يفعلون ذلك دومًا؟ هذا ما يحتاج حزب كالتجمع، أن يفكر به الآن، بالمناسبة.
عوض عبد الفتاح: أظهرت هبة أيار 2021 أثر التراكمات على مجتمعنا، الأمر السلبي أن لا مرجعية للناس، وليست هناك أطراف تراكم وتستثمر ما يجري. الناس الآن تبدو هادئة، لكنها قد تكون بانتظار الهبة القادمة
- ما المخرج من هذا المأزق الفلسطيني، سواء في أراضي عام 1948 أو 1967، وفي الشتات؟
دعني أقول لك إنه وبالرغم من كل الضرر الذي تعرض له المشروع التحرري الفلسطيني، إلا أنني ألمس دعمًا جيدًا لرؤية الدولة الواحدة بين الناس، لدرجة تفاجئني أحيانًا. أتوقع أنه وخلال سنوات قليلة، سيصبح هذا الخطاب الشعبي العام للفلسطينيين.
لدينا مؤتمر عام في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، وقد نناقش تحولنا إلى حركة، بدلًا من بقائنا كحملة. وسواء نحن أم غيرنا، نطمح يومًا ما أن نرى حركة شعبية تضع الدولة الواحدة برنامجًا نضاليًا، حتى تدفع قدما باتجاه هذا الهدف.
في النهاية، لن يصح إلا الصحيح. لن يكون هناك دولتين في هذه البلاد نتأمل أن يكون هناك دولة واحدة، كحل عادل للجميع، ولن يكون ذلك إلا بهزيمة المشروع الصهيوني، وهذه ضرورة حتمية.
*خضعت المقابلة لتحرير بسيط، لتسهيل عرضها