28-مايو-2017

يحكي الصحفي أحمد البيتاوي عن رؤيته مدينة حيفا في الداخل الفلسطيني المُحتل، لأوّل مرّة، حين دخلها ليُقدّم شهادة في محكمة إسرائيليّة، لم يُمنح تصريح دخول، وإنما نُقل في ما تسمى "البوسطة" التي يُنقل فيها الأسرى، ويلاقون أشدّ العذابات.. يُقارن في نصّه بين دخوله المدينة مُعتقلًا، أو كشاهد.. إليكم النّص:


في مثل هذه الأيام قبل عامين، وطأت قدماي لأول مرة في حياتي بقيّة أرضنا المحتلة عام 48. دُعيت يومها للشهادة في محكمة حيفا المركزية على خلفية إغلاق مؤسسة التضامن التي كنت أعمل بها، رفض الاحتلال في حينها منحي تصريح دخول ولو لمدة 24 ساعة، وأصرّ على نقلي بسيارة "بوسطة".

جاءت السيارة إلى معسكر حوارة في نابلس، فأرسلوا واردهم، كان درزيًا طويل القامة، مفتول العضلات، في الأربعينات من عمره، قال بصوت هادئ: أنت أحمد؟، قلت: نعم. قال تفضّل معنا..

لأول مرة استقل "البوسطة" دون قيود، والجوال إلى جانبي، أرتدي بدلة رسمية، حليق اللحية والعطر يفوح مني!

لأول مرة استقل سيارة "البوسطة" دون قيود، والجوال إلى جانبي، كنت أرتدي بدلة رسمية، حليق اللحية والعطر يفوح مني، هذا بحد ذاته كان أمرًا يثير الحماسة، شعرت بالنشوة والسرور.

تقمّص السائق دور الدليل السياحي، وأخذ يُعرّفني على المناطق التي كُنّا نمر عنها، يااااه كم يبدو المشهد معاكسًا.. أصحاب الأرض الحقيقيون تحوّلوا إلى سيّاح وزوار في ديارهم!

طوال الطريق لم أغمض عيناي ولا لثانية واحدة، كنت حريصًا بأن تسجلا كل ما تراه.. فمثل هذه الفرصة قد لا تتكرر.

بعد ساعتين من انطلاقنا، وصلت حيفا، هذه إذًا هي المدينة التي كتب عنها كنفاني روايته، وهذه هي المدينة التي نظم الشعراء قصائدهم عن بحرها وبرتقالها وشوارعها.. وهذه هي حيفا التي جسّدها مسلسل التغريبة الفلسطينية، أراها واقعًا ملموسًا أمامي.

لأول مرة أشاهد البحر، كان طويلًا ممتدًا في الأفق مرعبًا رغم سكونه، مخيفًا رغم صغر أمواجه، كانت السفن الكبيرة بعضها راسيًا في مرفئه، وبعضها الآخر في عرض البحر، كانت النسمات تهب عليّ مشبعة بالرطوبة، ولكنّها لم تكن مؤذية، فقد كانت من "ريحة البلاد". البحر وحده الذي لم يتغير، كان شاهدًا على الحقيقة، قادرًا على ابتلاع الدخلاء دون وجود عصا موسى.

منازل الغرباء العابرين كانت جديدة، تعلو على بقايا البيوت الفلسطينية المُدمّرة

كانت المنازل على جانبي الطريق بعضها قديم عتيق أسود الحجارة تعلوها الطحالب والأعشاب، هذه كانت بالتأكيد لأصحاب الأرض وعمارها، وبعض المنازل كان جديدًا طويلًا يناطح السحاب، كانت للغرباء والعبرانيين العابرين، فيما بدت منازل أخرى أكوامًا من الأطلال، تحكي تحت بقايا أقواسها الفلسطينية ألف حكاية وحكاية عن اللجوء والتشرد، لم تنجُ من آلة التدمير الصهيونية.

كنت أرى الأسماك بجميع أصنافها وأشكالها ممدة على الصناديق البلاستيكية، لم تكن بحاجة لوضع الثلج فوقها، فكانت طازجة سرعان ما تتلقفها أيدي الزبائن اليهود والعرب والسواح الأجانب، كنت قادرًا على تمييز سحنهم وأشكالهم.

بعد انتهاء الشهادة في المحكمة، ركبت سيارة "البوسطة" مُجددًا، واقترح عليّ سائقها الدرزي تناول وجبة الغداء في أحد محلات الشاورما العربية. كان أغلب زبائنه من اليهود؛ لأول مرة أخالط اليهود (المدنيين)عن قرب. في بادئ الأمر لم يراودني أي شعور عدائي تجاههم، ولكن عندما تذكرت قصتهم وأنهم يقفون فوق أرضنا، سرعان ما تغيير هذا الشعور..

بعد شهرين فقط من هذه الرحلة "الممتعة"، اعتقلني الاحتلال مُجددًا، وبعد أسبوع نقلت من مركز تحقيق "بتاح تكفا" إلى حيفا لاستكمال الشهادة الأولى. كنت مرتديًا هذه المرة بدلة السجن البنيّة، كانت لحيتي خشنة مبعثرة، فيما كانت رائحة العرق تفوح من تحت إبطي، أمّا سائق "البوسطة"، فقد كان هذه المرة يهوديًا جلفًا حاقدًا، شدّ وثاقي بقوة، حتى اخدرّت يداي.

دخلت قاعة المحكمة، فتفاجأ القاضي من شكلي، سأل النيابة العسكرية عن تبدّل حالي؟ قالوا: اعتقل مُجددًا..


اقرأ/ي أيضًا:

فلسطينيون يعودون لـ"البلاد".. "هون دارنا"!

هوّ صحيح الهوى غلَّاب؟

هكذا أتذكر الأستاذ نزيه