هذه الحرب غاليةٌ جدًا، تضع يدك على قلبك عند البحث عن رسائل الأطفال الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي. مع كل رسالة تقرؤوها تشعر كأنّك وجدت ورقةً ملقاة في الشارع من مجهول، يستنجد بك لتنقذ حياته لكنّه لم يكتب عنوانه أو رقم هاتفه ولا حتى اسمّه الأول. ماذا عليك أن تفعل إذًا؟ ستبدو مجنونًا إذا اتصلت بالشرطة، وجبانًا إذا مضيت. العجز أمام الحزن يضاعفه، وهذا ما سيصيبك أمام رسائل الأطفال الأسرى.
مع كل رسالة تقرؤوها تشعر كأنّك وجدت ورقةً ملقاة في الشارع من مجهول، يستنجد بك لتنقذ حياته
رسالة الطفل الأسير أسامة زيدات
الكلمات العادية في رسائل الأطفال تجعلك تخاف أكثر، تظنُّ أنّه كان على الأطفال أن يتوسلوا أهلهم أن يخرجوهم من السجن، كان على الورقة أن تبدو مجعدة بسبب الدموع التي جفت عليها وغيّرت ملمسها، ولكنّ الورق يبدو سليمًا والرسائل كلها قوية بشكل مخيف، يجعلك تشك في أنّ أهل الطفل هم الذين في السجن، والطفل يوصيهم بأن يكونوا بخير! كما جاء في رسالة الطفل أسامة زيدات (14 عامًا). كتب أسامة لأهله:
"أبوي أمي أخواتي، أنا بخير ابقوا صامدين وأنا معنوياتي عالية ولا تزعلوا، وكونوا قويين لأني أنا قوي وأنا أحبكم كثيراً ومشتاق لكم، وأدعو لكم بالصلاة دائمًا وأريد أمي وأبي راضين عني، أنا راضي باللي صار معي، وكل هذا أجره عند رب العالمين، وإن شاء الله بفرجها علينا، بلغوا سلامي لعمي إياد وأولاده جميل ومحمود، وإلى ابن صفي موسى حميدات وبلغوه إني حابب كثير أشوفه، أبي أمي أخوتي مشتاق لكم كثيرًا، وخصوصًا أميرة".
اقرأ/ي أيضًا: أطفال فلسطين في سجون الاحتلال.. لقاء مبكر بالجلاد
رسالة الطفلة الأسيرة ديما الواوي
في يوم خروجها من السجن كان وجه ديما أصفر وحزين وغاضب وكأنّه لن يغفر أبدًا. ديما (12 عامًا)، والتي ظهرت في مقابلات تلفزيونية كثيرة بوصفها أصغر أسيرة فلسطينية، تحدثت عن تجربة السجن والوجع الذي عاشته، ولكنّها عندما كانت تكتب لأمها اختارت أن لا تزعجها بهذا الوجع وأن تحمله وحدها، فكتبت:
"أمي الحبيبة أبي العزيز وأخوتي اشتقتلكم كثيرًا، واعلموا أنّكم معي دائمًا، اطمئني عليّ فأنا سعيدة يا أمي ولا أحتاج لشيء سوى بقائكم بصحة دائمة. والجميع هنا يساعدني، ويهتم بي، وأنا هنا ادرس وألعب وأكل ولا أريد إلا سلامتكم، أعلم أن السجن لن يغلق بابه على أحد. سلمي على أبي وأخوتي وصديقاتي والمعلمات والأقارب".
اقرأ/ي أيضًا: لماذا نشر الاحتلال فيديو التحقيق مع الطفل أحمد؟
رسالة الطفلة الأسيرة نتالي شوخة
الطفلة الأسيرة نتالي شوخة (15 عامًا) اختارت طريقة ديما الواوي في طمأنة والدتها، بل إن نتالي ذهبت أبعد من ذلك وحاولت أن تجعل أمها فخورة بها، فكتبت:
"سلاماتي لأهل الجود والكرم، أهل قريتي الحبيبة رمون، سلاماتي لمجلس القرية ولكل من يدعمها للتطور. يمّا أنا في السجن صرت من اللجنة الثقافية، وصرت عضو من الأعضاء في المجلة، وبناقش روايات وأخدت المرتبة الرابعة، الحمد لله على كل حال، يما ويابا الجميع بيمدح بترباتكم لألي، ارفعوا راسكم. وأنا قاعد بالغرفة مع 6 بنات واحنا 13 زهرة (قاصرات) عايشين مع بعض على الحلوة والمرة. يما وصلي سلامي للجميع وأحكيلهم مشتاقلهم كثير وأسف اذا نسيت حدا. الله يجمعني فيكم عن قريب ويا رب الفرج العاجل.
لن يأسروا في الورد عطر الياسمين".
ووقّعت الطفلة رسالتها بـ: الأسيرة نتالي شوخة/ سجن هشارون- قسم 14.
اقرأ/ي أيضًا: إعلام (الأسرى) الذين لا إعلام لهم
رسالة الطفل الأسير شادي فراح
قالت أم الطفل شادي فراح، إنّ ابنها شادي (12 عامًا) راح يسترق النظر إليها، بينما كان في جلسة المحكمة، ويومئ بنظرات تسأل "رح أروّح معكم اليوم؟" ارتبط لساني، لم أعرف ماذا علي أن أجيبه، فطفلي الصغير لم يدرك بعد معنى أنه سيمضي في السجن سنتين، وتضيف أم الطفل: سألته رغمًا عن الجنود الذين حاولوا مرارًا إسكاتي: ماذا أحضر لك؟ أجابني: "أريد كيس شيبس، وعلبة شكولاتة، وأشتهي السندويشات التي كنت تصنعينها لي كل صباح، لآخذها معي إلى المدرسة، أريد واحدة أيضًا".
شادي صاحب الوجه البشوش أختار أن يطلب من أمه أن تكون قويّة وبدا في رسالته وكأنّه يشعر بالذنب من أن يكون حبسه قد تسبب لها بأي انكسار. كتب شادي:
"إلى أمي وعائلتي، أريد أن أقول لك كل عام وأنت بخير ولكن هذه المرة وأنا بعيد عنك، أريد أن أقول لك أن تبقي رافعة راسك مثل شجرة النخيل، لا يهزها ريح ولا حتى زلزال ولكن إذا أتت عليها عاصفة قوية ممكن تقع وممكن أن لا تبقى مكانها. وأريدك يا أمي أن لا تحزني هذا اختبار من عند الله، ولا يجب أن تتحسري على ما جرى. أريدك أن تسلمي لي على أصدقائي وأقربائي أيضًا، وإخوتي الأولاد والبنات، وخص نص (بالتحديد) ريان. مع أنّي من يوم ما انولدت كنت شقي بس اليوم بحاول أركَزْ".
اقرأ/ي أيضًا: 16 ساعة من الإذلال الإسرائيلي المتعمد
رسالة الطفلة الأسيرة ملك سلمان
ستضحك عندما تسمع أحدهم يحاول أن يصف لك كيف يجب أن تكون الصحة النفسية للأطفال الفلسطينيين؛ فهو يتحدث عن صحة نفسية مشروطة بجو وبيئة لن تجدها إلا في دول العالم "المتقدم" الذي يموت الناس فيها على الأغلب لأسباب طبيعية جدًا كالتقدّم في العمر، حادث سيارة أو مرض خبيث، وفي هذه الدول أيضًا لا يُسجن الناس إلا لأنهم مجرمون. ولكن ماذا سنفعل عندما يكون الأطفال الذين نتحدّث عن صحتهم النفسية هم الذين يقبعون في السجن؟
ورغم أن الصّحة النفسيّة الجيدة تبدو وهمًا في هذه الظروف، إلا أن وجود رسالة مليئة بالكلمات العادية التي قد يكتبها أي طفل لأمّه يبدو أمرًا جيّدًا. هذا ما فعلته الطفلة الأسيرة ملك سليمان (16 عامًا) في رسالتها لأمها. فالطفلة في رسالتها لم تحاول أن تتحمل مسؤولية أكبر منها، لم تحاول أن تقول إنها بخير، كتبت فقط عن مشاعرها تجاه أمّها. كتبت، وقالت:
"رسالة إلى نبضي وعمري، وكلّ ما أملك في العالم، إلى أمي، أمي التي حملتني تسعة أشهر وأنجبتني فكبرتني وربتني بدموع عينيها الغاليتين، هي التي حمتني من كل ضرر وبكت على دمعتي وألمي وحزني، وهي التي وجهتني لطريق الصواب، وهي التي علمتني معنى الحياة وكيف أعيشها مع من أحب ومن أرافق، لو جمعنا كل كلمات الدنيا لن نستطيع وصف الأم وروعة الأم، وأمي هي كل حياتي وسأفديها بعمري... أمي ثم أمي ثم أمي.. سلميلي على الكل، وأحكيلهم ما راح أنساهم أبدًا وما ينسوني، لأنو الفرج قريب بإذن الله، وراح أروِّح، إحنا وجميع الأسرى يا رب.. ادعولي مشان الله.. ادعوا من قلبكو إلي ولجميع البنات والشباب أمانة".
اقرأ/ي أيضًا: رسالة إلى محمد القيق
رسالة الطفلة الأسيرة نوران البلبول
يقول تشارلز ديكنز "في عالم الأطفال الصغير ليس هناك ما هو أصفى ولا أوضح من إدراك الظلم والشعور به". وهذا ما ستشعره تمامًا في رسالة نوران البلبول (14 عامًا) وهي تحكي لأمها عن أمنياتها بقضاء شهر رمضان والعيد في البيت مع أهلها. كتبت نوران:
"يا ماما نفسي وأمنيتي أطلع قبل رمضان والعيد والله نفسي أكون بينكم، السجن مش حلو، نفسي أصوم وأعيّد معكم، بس إن شاء الله ربنا بيفرجها عليّ وعلى جميع الأسرى والأسيرات، وكل الأسيرات صغار وكبار هيهم بيسلموا عليك كثير السلام والله".
في تقرير لنادي الأسير؛ ذكر الطفل الأسير محمد عطا زعول أن جنود الاحتلال انهالوا عليه ضربًا، بأيديهم وأرجلهم وبالعصي، في جميع أنحاء جسمه، ثم خلعوا جميع ملابسه ووضعوه في برميل ماء بارد جدًا لمدة نصف ساعة، حيث فقد وعيه، وبعد أن عاد إلى وعيه، أجلسه المحققون على كرسي وسلّطوا عليه المكيّف ثم أحضروا رشاشي ماء بارد وساخن وتمّ تسليطهما على أعضاء جسمه بالتناوب.
الأطفال وقت الأزمات يكبرون بشكل أسرع، يتجاوزون مراحل، ويتجاهلون احتياجات ويكبتون مشاعر
هل تعتقدون أن محمد كتب لأهله عن كلِّ هذا؟ أم اختار أن يحمله بمفرده؟ يبدو واضحًا مما يكتبه الأطفال في الأسر أنهم يختارون غالبًا، الاحتفاظ بتفاصيل السجن المؤلمة لأنفسهم، في المقابل يملأون رسائلهم بالتوصيات للجميع أن يكونوا بخير.
يبدو أنّ الأطفال وقت الأزمات يكبرون بشكل أسرع؛ يتجاوزون مراحل، ويتجاهلون احتياجات ويكبتون مشاعر، حتى تصبح شخصياتهم مناسبة للظروف التي يعيشونها، وحتى تكون شخصياتهم أيضًا عند حسن ظنّ مجتمع بأكمله يخبرهم أنّهم أبطال. فالأبطال لا يبكون ولا يتوسلون بل يقولون أنّهم دائمًا بخير!
اقرأ/ي أيضًا: