كُنت في إحدى مركبات البوسطة (مركبات نقل الأسرى)، متوجّها إلى معبر سجن الرملة، حين دخل علينا أسير شديد بياض الشعر، لا يعرفه منّا أحد، كانت خطواته ثقيلة، وقد ارتدى نظّارة سميكة استقرّت فوق عينيه الغائرتين في وجهه الحنطيّ، أثار السجن تدلُ عليه، وعلامات التعب ظاهرة على ملامحه، دخل على مهل، وجلس إلى جانبي بهدوء، وصمت.
بعد دقائق من انطلاقنا؛ سألته: نتعرف عليك؟ قال: كريم يونس. قُلت: أقدم أسير في سجون الاحتلال؟ قال: نعم. دعوت له بالفرج، وسألته عن وجهته. فأجاب أنّه في نقل مؤقت من سجن هداريم إلى سجن نفحة.
الأسير كريم يونس من سكّان عارة، في الداخل الفلسطيني، أقدم أسير في سجون الاحتلال، معتقل منذ 1983. ومحكوم بالمؤبد
كان صوته خافتًا، وكلامه بطيئًا. وددت مواصلة الحديث معه، تدفعني بذلك غريزتي الصحفية، لكنّي قررت ألّا أطيل، فقدامى الأسرى يفضّلون الصمت، ويؤثرون السكوت؛ لا يحبون الثرثرة وكثرة الكلام، لعلهم وبسبب تعاقب السنوات والعقود فقدوا الثقة بالكلام والكلمات، وملّوا مفردات اللغة.
انطلقت البوسطة، وقف يونس على قدميه المقيدتين، وأمسك بقضبان حديد النافذة بيديه، والقيد يُحيط بهما أيضًا، وأخذ ينظر إلى الشوارع والناس، قال مُعلّقًا: هذه الفرصة لا تتكرر كثيرًا، أحرص على استغلال كل ثانية منها، فنحن لا نخرج في البوسطة إلّا عند العلاج، أو النقل من سجن إلى آخر.
كطفل صغير، وقف كريم ينظر من حافلة روضته ليكتشف العالم الجديد من حوله، ينظر إلى السيارات، العمارات، الأشجار، الناس، السهول، الجبال. بين الفترة والأخرى كان يفرك عينيه ويمسح نظارته بقميص الشاباص (لباس السجن)، لعلّ عينيه لم تعتادا مثل هذه المشاهد، ودماغه لم يأخذ وقتًا كافيًا لاستيعابها وحلِّ شيفرتها ورموزها وطلاسمها. طوال الطريق كنت أنظر إليه نظرة إشفاق وحزن، كان رجلًا نسيه السياسيّون وتجاوز عنه المفاوضون.
قدامى الأسرى يفضّلون الصمت، ويؤثرون السكوت؛ لا يحبون كثرة الكلام، لعلهم فقدوا الثقة بالكلام والكلمات، وملّوا مفردات اللغة
قلت في نفسي هذا الرجل لم يركب سيارة منذ أربع وثلاثين سنة، هو لا يعرف إلا سيارات موديل 83. لم يلمس حاسوبًا أو جهاز جوّال، يسمع بـ "الواتس أب" و"اليوتيوب" و"الفيسبوك" والبريد الإلكتروني ولكنّه لا يعرف كيف يستخدمها. هذا الرجل استبشر خيرًا بأوسلو، ظنًّا منه أنها عجل إنقاذ سيمسك به ويخرج من بحر السجن، ولكن قبطان السفينة لم يلتفت إليه. هذا الرجل قفزت عنه عدة صفقات تبادل دون أن تشمل اسمه، عاصر ستة رؤوساء للولايات المتحدة، ريجن، بوش الاب، بل كلنتون، وش الابن، أوباما، واليوم قُدّر له أن يلحق "المجنون" ترامب.
بعملية حسابية بسيطة نجد أن هذا الرجل أمضى 12.410 أيام في الأسر، في كل يوم كان يُعدُّ ثلاث مرّات، وهذا يعني أن مصلحة سجون الاحتلال عدّته 37.230 مرّة، وأمضى 297.84 ساعة في الاعتقال، ولكم أن تتخيلوا كم مرة نبض فيها قلبه. كل نبضة كانت قاسية صعبة عليه. كم من أقاربه وأصحابه وجيرانه توفوا وهو بين جدران السجن؟ هو بالتأكيد لم يعد يتذكر أسماءهم. كم أسير ودّع قبل أن ينطلقوا للحرية ويتركونه خلفهم. كم مرّة تخيّل نفسه مكانهم؟
كريم يونس؛ له بقايا آمال، لا يطلب المستحيل، يتمنى الحرية والخروج للحياة، فمتى يقذف حوت السجن يونس لشاطئ الحرية؟
اقرأ/ي أيضًا: