26-أبريل-2018

رام الله، 2015، Camille Gazeau/ Getty

"لقد بلغ العالم منطقة فاصلة إن هو تجاوزها، سيتحوّل كل شيء فيه إلى جنون: سيسير الناس في الشوارع وهم يحملون زهرة أذن فأر، أو يطلقون النار على بعضهم بعضًا. ولن تلزم إلا قطرة واحدة ليطفح الكيل: سيارة أو رجل أو أي صوت زائد في الشارع. هناك حد كمّي لا ينبغي تجاوزه، غير أنّ لا أحد يراقب هذه المنطقة الفاصلة، بل ربّما لا يعلم أحد بوجودها". كونديرا، الخلود.

يكادُ كلٌّ منّا يقارب هذه المنطقة الفاصلة، تلك التي لا يعلم أحدٌ بوجودها، وربّما نعلم جميعًا بوجودها لما فِي دواخلنا من رغبات مجنونة أحيانًا تشبهُ تلك التي يصفها النصُّ السابق، عندما نجد أنفسنا محاطين بمئاتِ البشر المتمهِّلين فوق الأرصفة. لم يعد الرصيف منذ زمن مكانًا مخصصًا للمشاة، لا في نظر المشاةِ أنفسهم، ولا في نظر المتاجر أو البلديّات وأشجارها القبيحة المزروعة فوق الأرصفة.

  الرصيف الآن فضاء عام منتهك ومستباح. وعلى الرغم من ضيقِ مساحته، إلّا أنّه يستطيع أن يولِّد فِينا حالة نفسيّة تنقلُنا إلى تلك المنطقة الفاصلة  

الرصيف الآن فضاء عام منتهك ومستباح. وعلى الرغم من ضيقِ مساحته، إلّا أنّه يستطيع أن يولِّد فِينا حالة نفسيّة تنقلُنا إلى تلك المنطقة الفاصلة، إلى حالة الجنون تلك التي يصفُها كونديرا. وفي هذه المنطقة، تنهار منظوماتنا الأخلاقيّة، مجازًا وحقيقة، تلك التي نعتقدُ بوجودها ويعتقد المرء منَّا بامتلاكها. وبكلمات أخرى، يتحوّل البشريُّ المثاليُّ فوق الرصيف إلى الحيوانيّ الأنانيّ المطلق العدائيّ المطلق، ويودّ المرء لو يفترش لنفسه قطعة من الرصيف لنفسهِ يمتلكها للأبد.

هناك ثلاثة أصنافٍ من البشر الذين يحتلون الرصيف: الأوّل، الدَّولة وأجهزتها المكرّسة ليل نهار إلى امتلاك المزيد والمزيد من الفضاء العام بصورٍ مختلفة، عن طريق آلات مزرعة فوق الأرصفة هي وسيلة الدولة لامتلاكِ جزءٍ كبيرٍ من الشارع العام، أو عن طريق أشجارٍ قبيحة وعواميد كهرباء وهاتف وغيرها من الأعمدة التي تمتلئ بها الأرصفة. أمّا النوع الثاني، فهو أصحابُ المتاجرِ الذين يُخرِجون ما في داخلِ متاجرهم إلى خارجها، محتلِّينَ بذلك جزءًا ليس باليسير من مساحة الرصيف الضيِّق أصلًا. والكائنات الأخيرة، هم المارّة، امرأة ليست مستعجلة أبدًا، تسير وهي تغلقُ الطريق على من ورائها ومن أمامها، طفلٌ صغير – لن تراه بريئًا أبدًا – يتنطط في كلّ اتجاه قد ترغب في أخذه لتجاوزهِ والمضيّ أبعد قليلًا منه، مجموعة من الشبابِ الفارغينَ من كلّ شيءٍ أو أمرٍ يتضاحكون كأنّهم يجلسون في مقهى، مجموعة من النساء الواقفاتِ كأنّهنّ يقفنَ ببابِ منزلِ إحداهنّ لا يأبَهنَ بشيء.

ومن المثير بمكان أن تقرأ خارطة ذهنك بعد أن تصبح في البيت. قد تخيّلت نفسكَ تقتلُ رجلًا، وقد تخيّلت نفسك تحرقُ امرأة، وقد تخيّلت نفسك تدوسهم بقدمين ضخمتين عملاقتين، وقد تخيّلت نفسك تحرقُ متجرًا، تقلع شجرةً، تكسرُ يدًا أو ساقًا، تحرقُ المدينة بأكملها. هذا كلُّه ما يصنعه رصيف المدينة الملعون بأحدِ المارّة في كل يوم.

  ثلاثة أصنافٍ من البشر الذين يحتلون الرصيف: الدَّولة وأجهزتها. وأصحابُ المتاجرِ الذين يُخرِجون ما في داخلِ متاجرهم إلى خارجها، والمارّة   

لستُ أحد ساكِني المدينة. إن سكّان المدينة وأهلُها همُ من يفترشون الأرصفَة بيوتًا لهم ولا يشعرون بالحرجِ من المكوث واقفينَ فوق الأرصفة لعشر دقائق أو نصفِ ساعة أو حتى ساعة أو يزيد. ساكنوها همُ من يملتكون الأرصفة. وكما خريطة الذهن الخاصّة بالإنسان، فالرصيفُ هو خارطة ذهنِ المدينة. في هذه الخريطة تجدُّ مدينة تكرهُ سكَّانها ويكرهها سكَّانها. مدينة منتهكة كأرصفتها، فضاءاتها العامة مستباحة، لا مكان فِيها للزائرين أو الغرباء، لا مكان فِيها لأولئك الذين يريدون أن يمشوا وحسب. فأينما ولَّيت بصرَكَ رأيتَ شخصًا يريدُ امتلاكَ ما فِي جيبك. رأيت وجوهًا متعبة، بشر منهكون من المشيِ الطّويل والتبضَّع بحاجيَّات لا تزيدهم إلَّا سُمنة وبطئًا وإنهاكًا وإفلاسًا. القذارة تغطِّي جوانب الأرصفة كما تغطِّي شوارعها. الازدحامُ الخانق هو ذهن مدينة مسحوقة ومختنقة بسكَّانها.

يقولُ لي صديق: "أقسمُ أنَّني قادر الآن.. الآن، أن أقتل بلا ذنب. أقول لك، الآن، الآن، قد أقتل هذه المرأة بلا أيّ شعور بالذنب". كانت امرأة تسيرُ على مهلٍ، ليس على استحياءِ كما قد يظنُّ البعض، بل على مهلِ المستهلكة التي لا تفوِّت فرصة النظر إلى البضائع التي أعمت بصرها ليل نهار. هي وامرأتين أخريتين، كنّ يغلقن الطريق بأجسادهن المترهلة. كأنّه كان يؤكِّد لي رغبته الخالصة بالتخلّص منهنّ. الأفكار هي أفعال ناقصة، وهو كان يؤكّد لي أفعاله الناقصة التي تورثه شعور بالعجز والاغتراب عن المكان. لقد نظرت في هذه النسوة كثيرًا، ولم أشعر أبدًا بأيّ علاقة تجمعُني بهنّ، لا علاقة وطنيّة ولا علاقة جغرافيّة. أنظر كثيرًا في سكّان الرصيف، لا أجدُ علاقة، أيّ علاقة، تجمعُني بهم. وأجد في نفسي بعضًا مما في نفس صاحبي. وعندما أعودُ إلى البَيت، أراجع خارطَة ذهني: إنّها مليئة بالقتلى!

 تجدُّ مدينة تكرهُ سكَّانها ويكرهها سكَّانها. مدينة منتهكة كأرصفتها، فضاءاتها العامة مستباحة، لا مكان فِيها لأولئك الذين يريدون أن يمشوا وحسب  

من الضروريّ أن يراقب أحدٌ ما، المكان، الفضاء العام، الرصيف.. فليُسمَّى ما يشاء لهُ أن يُسمَّى. أن يراقب ذهنَ المدينة وهو يتفجَّر ويكادُ يَغلي كأنّه مصاب بالتهابٍ سحائيّ. إن أحدًا علَيهِ النّظر عن قربٍ إلى هذا الذهن المريض، وأن يجدَ فِيه أسباب هذا التشوُّه والاحتراقِ غير المحتمل. وربّما لا يعلمُ أحدٌ أنّ الذهن مصابٌ ومريض ومتشوّه، قد لا يعلم أحدٌ بوجود تلك المنطقة الفاصلة التي يسيرُ فيها الناس وقد يطلقون النار على بعضهم البعض، قد لا تعلم رام الله، المختنقة بدخانها وضوءِ بضاعتها الساطع، أنّها تحترق.

ومن الضروريّ بمكان أن يراقب أحدٌ حالة التشوّه والضجيج التي مسخت وجه المدينة والمدينة نفسها إلى كائن استهلاكيّ عملاق. إن تجربة العيش في مدينة كرام الله، لن تقود الإنسان إلّا لسلخ نفسهِ عن أي انتماء متخيَّل قد يشعر به للحظاتٍ وهو في بيته. الضجيجُ الصارخ الذي يعمُّ المدينة، دخان السيارات وأبواقها المزعجة، الموسيقى الغربية وتلك الشرقيّة المختلطة ببعضها بنشازٍ موسيقيّ لا يحتمل، صراخ الباعة، صراخ الأطفال، العدائيّة الصارخة التي تجدها في وجه المارّة إن تعثّرت بأحدهم خطأ. هذا كلُّه ليس بالحالة المدينيّة الإنسانيّة، بل هو يكادُ يكون حالة استهلاكيّة مدينيّة خالصة متعفِّنة ومترهلة.


اقرأ/ي أيضًا:

مدينةٌ أخرى ستوجَد أفضل من هذه

فتى القطار

على رصيف هذا العالم