"إنك دائمًا تقول لا أعرف. ألا تعرف كلماتٍ غيرها؟ نحن لسنا الأردنيين الذين لم تعترف أمامهم". هذا ما قاله المحققون للأسير سالم الحاج محمود صافي، وقد أوردها الأسير السابق عبد العليم دعنا في كتابه "شهداء الحركة الوطنية الأسيرة"، واصفًا بها صمود سالم الحاج في غرف التحقيق الإسرائيلية. كلماتٌ قليلةٌ قالها المحققون، قابلها عملٌ كثيرٌ لإجبار سالم الحاج على الاعتراف، وانتهى أخيرًا باستشهاده وفشل المحققين.
سالم الحاج صافي، التحق بحركة فتح قبل أن يُكمل 30 سنة، واستُشهد بسبب التعذيب في التحقيق العسكري
وُلِد سالم في قرية بنايا قضاء الخليل قبل النكبة بعشر سنواتٍ، وتعلم القراءة والكتابة في كتاتيبها، وقبل أن يُكمل الثلاثين سنة التحق بحركة فتح، وتعرض خلال ذلك للاعتقال في السجون الأردنية، حيث خاض إضرابًا مفتوحًا عن الطعام مطالبًا بالإفراج عنه، وتعرض للمحاكمة عدة مرات لدى محكمة أمن الدولة الأردنية، ووضع تحت الإقامة الجبرية عدة مرات.
اقرأ/ي أيضًا: نادر العفوري: الجنون حين يُصبح خلاصًا
ليل الثامن والعشرين من كانون أول/ديسمبر لعام 1970، داهم جيش الاحتلال مدينة دورا جنوب غرب الخليل، على إثر أعمال مقاومة متتابعة لخلايا تابعة لحركة فتح كانت تنطلق من المدينة وأريافها. في تلك الليلة اعتقل الجيش، 60 فلسطينيًا كان أحدهم سالم الحاج، وعمره آنذاك 34 سنة.
نفذ جيش الاحتلال تلك الحملة نتيجة اعترافاتٍ انتزعها جهاز "الشاباك" حول دور كبير لسالم الحاج في الثورة، ولذلك استهدفت الحملة أشخاصًا تربطهم بسالم علاقات عمل أو صداقة أو قرابة، إضافة لأشخاص تتشابه أسماؤهم مع اسمه.
منذ لحظة اعتقاله، أخضع المحققون سالم الحاج لتحقيق جسدي عنيف جعله لا يكف عن الصراح ألمًا طوال ستة أيام متواصلة، وفق ما رواه رفاقه في السجن لعائلته، وهو ما أكدته شهادات نقلها دعنا عن رفاق الزنازين، جاء فيها أنه كان يتعرض للتعذيب حتى يفقد وعيه، فيُلقى في الزنزانة حتى يسترد وعيه ثم يُعاد لجلسة تعذيب أخرى.
كان سالم الحاج يتعرض لتحقيق جسدي عنيف حتى يفقد وعيه، فيُلقى في الزنزانة حتى يسترد وعيه ثم يعاد لجلسة تعذيب أخرى
تسمي أدبيات الحركية الأسيرة، التحقيق الذي تعرض له سالم الحاج بـ"التحقيق العسكري"، وقد ظلَّ هذا التحقيق متبعًا حتى عام 1999، حيث تم وقفه لكن ليس بشكل تام بعد جدلٍ داخلي في "إسرائيل" حوله. فالتحقيق العسكري الآن يُستخدم بقرار قضائي يصدر بسرعةٍ في حال كان الأسير يوصف بأنه "قنبلة موقوتة"، أي يحمل معلوماتٍ قد ينتج عنها تنفيذ عمليات خطيرة، وهو ما حدث -مثلاً- مع الأسير سامر العربيد مؤخرًا.
كان "الشاباك" يعلم -بناءً على اعترافات أسرى- أن سالم الحاج واحدٌ من أفراد خلايا فتح الذين شكلوا حلقة وصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة، هذا إضافة لحيازته أسلحة ومشاركته في أعمالٍ ثوريةٍ.
بعد ستة أيام من التحقيق، استُشهد سالم الحاج، بعد أن دقَّ المحققون مسمارًا طوله (10 سم) في أذنه فقتله، وفق ما وثّقه دعنا في كتابه نقلاً عن رفاق سالم في الأسر. أما عائلته فقد أُبلغت باستشهاده بعد 9 أيام من اعتقاله، حيث تحفظت سلطات الاحتلال على جثمانه لثلاثة أيامٍ في مستشفى "هداسا" بالقدس.
دقَّ المحققون مسمارًا طوله 10 سم في أذن سالم الحاج صافي فقتلوه، وزعم الاحتلال أنه توفي بسبب مرض مزمن
أصدرت سلطات الاحتلال تقريرًا قالت إنه طبيٌ زعمت فيه أن سالم الحاج توفي بسبب أمراضٍ مزمنةٍ يعاني منها، وهي الرواية التي تنفيها زوجته ندى أبو شرار، مؤكدة أنه كان حتى آخر يوم قبل اعتقاله على رأس عمله في المقاولات والبناء، وحين اعتُقل كان في أتم قوته الجسدية وعافيته.
اقرأ/ي أيضًا: أعياد الأسرى: قطايف وبوظة وشوق لـ"التفاصيل الصغيرة"
تسلمت عائلة صافي جثمان شهيدها سالم ليل السادس من كانون الثاني/يناير 1971، وأجبرتها سلطات الاحتلال على مواراته الثرى ليلاً تحت حراسة مشددة، وبلا جنازة. تقول زوجته، إن من غسلوه وجدوا آثار كدماتٍ شديدة على رجليه وظهره ورأسه، ونزفًا من أذنيه، وجرحًا غائرًا في أقدامه.
بعد ساعاتٍ من مواراته الثرى، وضعت ندى جنينها ومنحته اسم والدها الشهيد، وفي ذات اليوم تلقت بلاغًا من "الشاباك" بالحضور للتحقيق في سجن العمارة، ونظرًا لظرفها الصحي آنذاك، تم تأجيل المقابلة أسبوعًا واحدًا.
بعد أسبوعٍ، في صباحٍ شديد البرد، خرجت ندى تحمل رضيعها سالم لمقابلة المخابرات. تقول: "أخذت ابني معي لأني كنت متوقعة ما يتركوني أرجع"، وفي السجن تُركت تنتظر حتى حلول الظلام، ثم أبلغها الجنود بأن تنصرف الآن وتعود في اليوم التالي.
أمضت ندى أسبوعًا كاملاً على هذا الحال، تذهب للمقابلة صباحًا ثم في الليل تعود لبيتها لتنام وتعود في اليوم التالي. حدث ذلك في "مربعانية" الشتاء التي تُوصف في الموروث الشعبي الفلسطيني بأنها أكثر أيامه برودة.
على مدار أسبوع ظلت زوجة سالم الحاج صافي تحمل رضيعها وتذهب للتحقيق صباحًا، وفي الليل يصرفها الجنود طالبين العودة غدًا
ظلّت ندى تتلقى استدعاءً للتحقيق كل شهر على امتداد ما يقارب سنتين ونصف بعد استشهاد زوجها، هذا إضافة لمنعها من السفر. لاحقًا، تعرض أولادها أيضًا للاعتقال.
اقرأ/ي أيضًا: رومانسية أسرى وزوجاتهم على عينك يا سجان
رحل سالم، حاملاً في قلبه ما عرف من أسرار الثورة تلك الأيام، ظلّ يحرس أمان رفاقه بصمته. وقد ترك لزوجته خمسة أبناء وبنات لا يذكرون منه إلا "خيالات"، فأكبرهم "رويدا" كان عمرها 4 سنواتٍ حين اعتقاله الأخير الذي استُشهد خلاله.
في كتابه "شهداء الحركة الوطنية الأسيرة"، يحاول دعنا أن "يذكر أولئك الذين صنعوا التاريخ ولم يذكرهم التاريخ" وفق قوله، حيث يوثق قصص أسرى ارتقوا شهداء في السجون بسبب وحشية التعذيب، وسياسة الإهمال الطبي، والتصفية المتعمدة بالرصاص.
يقول دعنا: "في ليلة من الليالي في اعتقالي فترة الثمانينات، استيقظت على صوت أنين شديد في الغرفة، كان صادرًا من الأسير الشهيد حمزة أبو شعيب من قضاء نابلس، حاولت أعرف ألمه، فأشار لمغص شديد في بطنه".
حاول دعنا استدعاء المسعف (الحوفيش بلغة الأسرى) فقال له حمزة: "رح يعطوني دوا حموضة المعدة وما بيجاوب" وظل يتلوّى ألمًا لوقت طويل حتى وافقت إدارة السجن على تحويله للفحوصات الطبية التي أظهرت تفشي ورمٍ سرطاني في جسده.
أبلغ أبو شعيب، رفيقه دعنا، أن إدارة سجون الاحتلال عرضت عليه أن يحصل على أفضل علاج ممكن، مقابل أن يوافق شقيقه على التعاون مع الاحتلال، لكنه رفض الصفقة القذرة ودفع حياته ثمنًا للرفض.
عبد العليم دعنا وثق في كتابه "شهداء الحركة الوطنية الأسيرة" حكايات 94 شهيدًا، ويواصل توثيق المزيد
ومما يستعيده دعنا من ذكرياته، حادثة استشهاد الأسير خليل أبو خديجة عام 1983، وقد ارتقى نتيجة الإهمال الطبي، يقول دعنا: "لما بلغنا الخبر عبر إذاعة الاحتلال، صغنا بيان نعي الشهيد، وجلسنا نقرؤه فيما بيننا، كنا سبعة أسرى لم يستطع منا واحدٌ أن يقرأ البيان إلى آخره لشدة ما انتابنا من حزن".
عبدالعليم دعنا الذي بدأت رحلته مع السجون في السبعينات، وأخذت من عمره ما يقارب 18 سنة، عمل منذ خروجه على توثيق قصص شهداء الحركة الأسيرة، فوثق في كتابه حكايات 94 شهيدًا، ويعمل الآن على مواصلة توثيق قصص بقية شهداء الحركة الأسيرة الذين ارتقوا منذ 1994 حتى اليوم في السجون، وقد بلغ عددهم باستشهاد سامي أبودياك هذه السنة، 223 شهيدًا.
اقرأ/ي أيضًا:
95% من الأسرى يتعرضون للتعذيب.. و73 شهيدًا ارتقوا بسببه