03-ديسمبر-2016

تخضع عائلات الأسرى للتفتيش الجسدي عند مداخل السجون - Getty

بين كل ما يتذوق الأسرى الفلسطينيون مرارته داخل أسوار المعتقل، وكل ما يتجرعه ذووهم القابعون في سجون ذكرياتهم؛ يتجلى الأمل بأبهى حُلة كعروس ترتدي الأبيض في دجى ليلٍ وخيم. فيتأتى ليمد الطرفين بماء الحياة من خلال بضعِ زيارات تُسمح لهم، يرتدون فيها أجمل الثياب، يرسمون البسمات، ويصنعون المفاجآت، ولا ينسون الاحتفال بالمناسبات أيضًا.

تجربة جميلة

تستعد بهية النتشة زوجة الأسير الخليلي ماهر الهشلمون لزيارته كأنها تتجهز لرحلةٍ جميلةٍ تقضي فيها أمتع الأوقات، وهي التي حُكم زوجها بمئتي سنة إثر تنفيذه عملية دهسٍ وطعنٍ في محيط مستوطنة "غوش عتصيون" قرب بيت لحم في 10تشرين ثاني 2014، أدت إلى إصابته بـست رصاصات ما زالت إحداها ماثلةً بجانب قلبه حتى اليوم.

الأسير ماهر الهشلمون

ورغم حاجة ماهر إلى عملية جراحية لإزالة الرصاصة، إلا أنها تُركت في جسده لتُسبب له التقرحات والالتهابات الشديدة. كما تهشمت يده بالكامل بعد تعرضها للضرب المُبرح من المستوطنين، فيما أسفرت عمليته عن مقتل مستوطنة وإصابة آخرين بجروح.

زوجات أسرى ينتظرن موعد الزيارة بشغف ويتحضرن لها كأنهن يذهبن لرحلة رغم المعاناة التي يجدنها نتيجة إجراءات الاحتلال

بعد عيد الفطر المبارك زارت بهية زوجها بثياب العيد، تقول: "مجرد أن رآني من بعيدٍ وقبل أن يتحدث إليّ أشار بيده لأعود بضع خطواتٍ للوراء حتى يرى ملابسي كاملة من رأسي حتى أخمص قدمي، ثم أشار إليّ لأدور حول نفسي كالعروس فيراني كاملة وأنا أبتسم وهو يتأملني بابتسامة غامرة جعلت من هذه اللحظة أجمل لحظات الزيارة".

اقرأ/ي أيضًا: الختامة.. فرحة اندثرت في نابلس

جلست بهية قبالة ماهر، قال لها عبر سماعة الهاتف من خلف الزجاج العازل للصوت: "يا الله شو حليانة". كان ذلك كافيًا لتعود من الزيارة تطير فرحًا كعصفورة، وفق وصفها، وقد امتلأت أملاً وحياة.

تُسمي النتشة زياراتها لزوجها بـ"التجارب الجميلة"، فهي تستعدُّ للزيارة كرحلة، تقول: "في استعداداتي للزيارة دائمًا ما أحب أن أجعل لها طقوسها الجميلة فإذا كان ماهر أوصاني على احتياجات معينة له أتسوّق كأنني مسافرةً، وأتذكر سفرياتي أنا وماهر قبل تنفيذ العملية، إذ كان لنا كل عام رحلة حيث زرنا سوريا ودبي ومصر والعديد من الأماكن".

وترفض بهية التفكير السلبي تجاه الزيارة التي تستغرق يومًا كاملًا وتسبب إجهادًا كبيرًا، فهي تستمع بالتسوّق لزوجها وتفكّر في الأكلات التي ستعدها للطريق، والكتاب الذي سيرافقها، والصوتيات التي ستحمّلها على هاتفها، لتجعل من الطريق الصحراوي أكثر متعة، كما تقول.

ويتعرف أهالي الأسرى في كل مرة على أشخاصٍ جدد، وقصص مختلفة. ولا ينتظر راوي القصة من المستمع أن يسأله عن قصته، فتراه بدون مقدمات يتحدث عنها من البداية حتى النهاية، وتجدهم كالعائلة الواحدة في ذات الحافلة، فإذا ما شعر أحدهم بالجوع تُبادر إحدى النسوة لمشاركتهم الأطعمة التي تحضّرها، ويتبادلون الأحاديث بجوٍ من الأُلفة، رغم أنهم على الأغلب يلتقون لأول مرة.

رحلة العذاب لرؤية المحبوب

وتذكر بهية كيف فاجأت ماهر بزيارةٍ لم تكن قد أبلغته بها، ما جعله يتقافز في الهواء فرحًا عندما سمع اسمه من أحد السجانين بينما كان يتجول في "الفورة" دون اهتمام بالزيارات، وأخذ ينادي على الأسرى يطلب بنطالًا من أحدهم، ومن الآخر أن يكوي قميصه.

ورد ماهر المفاجأة في عيد ميلاد بهية، إذ أوصى أخته في زيارتها له أن تشتري لها ولطفليهما عبادة ومريم هدايا في تلك المناسبة. وتعلق بهية بأن تلك الهدية كانت الأجمل على قلبها، عندما تذكَّرَها وهو في الأسر.

يقضي أهالي الأسرى طريق الزيارة في التعارف وسرد القصص عن أبنائهم وشوقهم إليهم، ويتشاركون الطعام أيضًا رغم أن هذا اللقاء قد يكون الأول لهم

هنادي النجار خطيبة الأسير نائل النجار وهو أحد أسرى قطاع غزة، البالغ عددهم 372 بحسب آخر إحصائية لمركز أسرى فلسطين للدراسات، تحاول من جانبها أن تعيش مع خطيبها تجربة عاطفية غير منقوصة رغم أنها خُطبت له بعد اعتقاله، وهو يقضي حكمًا بالسجن لـ20 سنة، بتهمة استعداده لتنفيذه عملية استشهادية.

تقول هنادي: "لا يُمكن أن يُسمح لي بمفاجأة خطيبي في الأسر بأي نوع من المفاجآت المادية، حيث أننا كذوي أسرى غزيين نُمنع من اصطحاب أي شيء باستثناء الهوية الشخصية، فالهاتف المحمول ممنوع والكتب والمناديل الورقية، حتى الماء التي كان يُسمح بنصف لتر منها أصبحت ممنوعة".

الأسير نائل النجار

لكنّ هذه التشديدات لم تمنع تقاسمهما السعادة، فقد فاجأها نائل بهدية ورسالة كتبها بخط يده وأرسلهما مع أسير محرر، وما زالت تحتفظ بظرفها الخارجيّ حتى الآن لفرحتها بها. كما فاجأها مرة أخرى برسالةٍ من الصليب الأحمر فلم يتسع الفضاء لسعادتها.

وتعرب هنادي عن أمنياتها بالترجل من الحافلة في كل زيارةٍ لتقبيل التراب الذي حرمت من رؤيته والعيش عليه، لكن ذلك يُمنع طوال الطريق، إذ يُفتش الجنود الأهالي داخل الحافلة بماكنات خاصة، ولا يخلو الأمر من تفتيش جسدي مهين عند حاجز بيت حانون، وعند الوصول إلى المعتقل.

زيارات مقيّدة

وبالعودة لبهية النتشة وطفليها فإن زيارتهم لماهر مقيدة بـ"تصريح أمني" يسمح بالزيارة مرة ما بين ثلاثة أشهر وستة أشهر، وذلك بعد عام ونصف من حرمان الطفلين من الزيارة بدعوى وجود "منع أمني" من المخابرات. 

تقول بهية: "عندما اتصلت بي موظفة الصليب الأحمر أول مرة وأبلغتني أن تصريحي سيكون أمنيًا بكيت بشدّةٍ وأنا أتساءل كيف سأتحمل أن تمضي عدة شهور دون أن أراه، ولكن عندما انتهيت من الزيارة الأولى تمنيت من كل قلبي أن تكون الأولى والأخيرة، لكنها كانت الفاصل الأساسي في حياتي الذي غيّر نظرتي لجميع الزيارات بجعلها مغامرة جميلة".

ظلّت بهية لخمسة شهور بعد اعتقال ماهر تُجهز الأحاديث لترويها له، فيما يُدون هو على الورق ما سيخبرها به في أول لقاء بينهما. لكن المفاجأة جاءت في أن الصمت كان سيّد الموقف، حيث كانت الزيارة في سجن "عوفر" الذي يُعرف بقوانينه وسياسته الفظة تجاه ذوي الأسرى، التي تتمثل في التفتيشات الأمنية المتعددة، عدا عن مكان الانتظار الذي لا تتوفر فيه أدنى متطلبات الراحة، فهو "معرّش" مسقوفٌ بزينكو، في البرد بارد وفي الحرّ حار.

ومن قوانين معتقل "عوفر" أن تنتظر جميع الحافلات للمغادرة في لحظة واحدة، حتى لو انتهت زيارة ركاب أولى الحافلات وصولاً قبل ساعات من الأخيرة. هذا عدا عن إلزام العائلات بتنظيف المراحيض ومكان الانتظار.

تلزم قوات الاحتلال عائلات الأسرى في معتقل "عوفر" على تنظيف المراحيض ومكان الانتظار، وهو "معرّش" مسقوف بالزينكو بارد شتاءً وحار صيفًا

ورغم أن النتشة غادرت هذه الزيارة مُصابةً بحالة جمود، إلا أنها استطاعت أن تجعل الزيارات التالية أكثر بهجةً. تقول: "أنا لا أسمح للمعيقات أن تقف في طريق سعادتي في كل محن حياتي، ورغم أن هذه الزيارة كانت الأصعب لكنها جعلتني أتحدى وأتفنن في أن أكون سعيدة في الزيارات التي تليها".

رومانسية السجون

ومثل بهية وهنادي، تتجهز نرمين حلس من غزة أيضًا لزيارة زوجها الأسير ماجد حلس المحكوم بالسجن 10 سنوات بسبب انتمائه لكتائب شهداء الأقصى حيث اعتقل في شهر آب/أغسطس من عام 2008. وتذكر أنها بقيت خمسة أعوام دون التقائه، إلى أن خاض الأسرى إضرابًا عن الطعام انتهى بالسماح لهم بالزيارات.

اقرأ/ي أيضا: أعياد الأسرى.. قطايف و"بوظة" وشوق لـ"تفاصيل صغيرة"

تبتسم نرمين والدموع تغالبها ثم تقول: "ماجد الذي تركني مع طفلينا حمزة (3 أعوام) ومحمد (عام ونصف) عندما زرته لأول مرة كنا كالخاطبين، رغم أنه كان قد مر 9 سنوات على زواجنا".

وتضيف، "عندما اعتقل زوجي عاهدته أن لا أضع الكحل في عيني حتى أكتحل بمرآه، وبالفعل لم أضع الزينة على وجهي أبدًا. لكن عندما أبلغني الصليب الأحمر بالزيارة تجهزت بأجمل الملابس من السوق لي وله، وأحضرت الزينة وعلى باب الأسر كحلت عيني وذهبت للزيارة وأنا كالذي لامس السحاب من السعادة".

الأسير ماجد حلس

واستغرقت الزيارة الأولى نصف ساعة، بعد أن كانت نرمين قد قضت ليلتها السابقة دون نوم وهي تتقلب على جانبي الشوق. تقول: "شعرت عندما خرجت من الزيارة أنني كنت في حلم، فقد بقينا 10 دقائق لا نتحدث بأي شيء، نتأمل ملامح بعضنا فقط، وكانت مشاعري متلاطمة، شيئًا من الشوق والحنين وشيئًا من الحسرة والألم، والكثير من الخجل، حتى أنني شعرت كأني مخطوبة وأسترق النظرات لعريسي في أول مرة أراه بها".

تسمح سلطات الاحتلال لعائلات أسرى غزة بالزيارة مرة كل 70 يوم، وقد تطول الفترة أكثر في حال وجود أعيادٍ يهودية

تتابع: "لم تفارق وجهينا الضحكة طوال الزيارة التي انتهت كلمح البصر، حتى أننا بقينا ينظر كلانا إلى الآخر بعد أن قطعوا الصوت عنا دون إنذارٍ وأعلنوا انتهاء الوقت. بدأ الأهالي بالخروج والأسرى بالمغادرة وأنا وماجد نقف مقابل بعضنا نتحدث بالإشارة غير آبهين للجنود في الطرفين وهم يمنعونا من المواصلة".

استمرت لحظات الوداع حتى إغلاق الأبواب، كانت نرمين تسترق النظر إلى ماجد من فتحات الباب الصغيرة، وترى السجانين يبتعدون به أكثر فأكثر. خارت قواها ودخلت في حالة بكاءٍ حادٍ كأنها طفلٌ فقد أمه، ولا يريد الرحيل دونها. لم تكن نرمين تريد العودة لغزة، لم ترغب إلا بماجد.

وتفضّل نرمين في كل زيارةٍ أن تزف لزوجها الأخبار السارة، فتخفي عنه حال طفليه اللذين يتعرفان إليه من خلال الصور، وتهالك بيتها واضطرارها لاستبداله ببناء بيت جديد، لكنها في المقابل تخبره بحصولها على عمل وسعيها للحصول على درجة الماجستير في علم النفس.

وأبلغت نرمين ماجد أيضًا أنها حازت على رخصة القيادة لتستقبله على حاجز بيت حانون وتعود به بواسطة سيارتها إلى المنزل حرًا.

ويبدو كل لقاءٍ مهما طالت مدته مثل مشهد سينمائي يمر سريعًا، تودّع في نهايته كل فلسطينيةٍ حبيبها بأوتار قلبها، فيما الألم والشوق يُشعلان أفئدتهن كلما ابتعد المعتقل وسط رمال الصحراء وأصبح صغيرًا في عيونهن المعلقة نحو الأحبة بداخله، إلى أن تبتلعه الرمال ويختفي عن أنظارهن، أما هن فيبقين بانتظار المشهد الجديد.

اقرأ/ي أيضًا:

طحين الأسرى وابتساماتهم

أطفال فلسطين في سجون الاحتلال.. لقاء مبكر بالجلاد

معارك الأمعاء الخاوية.. البداية من "عسقلان