24-مارس-2019

فشل 124 محاميًا ومحامية -يزاولون مهنة المحامات في الضفة الغربية، وتتجاوز سنوات الخبرة العملية لبعضهم 10 سنوات- في اجتياز الامتحان النظري لوظيفة قاضي صلح، باستثناء ثلاثة منهم فقط تخطوا المرحلة الأولى، لكنهم فشلوا في المرحلة الثانية المتمثلة بالمقابلة العملية، مما ينذر بسقوطٍ مُدوٍ للتعليم والتأهيل القانوني في فلسطين، في حال استمرار التغاضي عن العوامل التي أدت لذلك.

للمرة الثانية، جميع المتقدمين لوظيفة قاضي صُلح بالضفة فشلوا في اجتياز الامتحان النظري

 ليست هذه المرة الأولى التي يفشل فيها القانونيون في اجتياز مسابقة اختيار قضاة صلح، فقد حدث الأمر ذاته قبل عدة سنوات حين فشل جميع المتنافسين في المسابقة. ويعود الفشل إلى أسباب عديدة، أبرزها ضعف جودة التعليم القانوني في كليات القانون والحقوق بالجامعات الفلسطينية التي تحولت غالبيتها إلى كلياتٍ تجاريةٍ هدفها الربح على حساب الجودة، وتسعى لاستقطاب طلبةٍ جددٍ إليها من خلال خفض معدلات القبول لمستوياتٍ متدنية، وتعمل على سد جزءٍ غير يسيرٍ من احتياجاتها للمدرسين بأساتذة غير متفرغين بعقودٍ مقطوعةٍ متدنيةٍ لا تكاد تكفي ثمنًا لمواصلاتهم، مما يحول دون استمرارهم  في العمل الأكاديمي. جزءٌ من المدرسين المتفرغين في بعض كليات الحقوق يقومون بأعمال إدارية أو مفرغين على مشاريع  تجلب أموالاً للجامعات على حساب التدريس،  وهذا كله ساهم في تدني جودة التعليم القانوني في الجامعات التي تُخرّج سنويًا أضعاف ما يحتاجه السوق من تخصص القانون.

اقرأ/ي أيضًا: القضاء والإعلام.. وصراع أباطرة الحكم

 لا يُعدُّ تحميل كليات القانون قسطًا كبيرًا من المسؤولية عن نتائج المسابقة إجحافًا بحقها، فهي من بادرت سابقًا لاستثمار نتيجة مسابقة اختيار وظيفة قاضي صلح، ووصفته مؤشرًا على مستوى التعليم القانوني لديها، واعتبرت بعضها أن تَبوُّأ خريجيها لأعلى نسبة تعيينٍ في مسابقة تعيين قضاة صلح مؤشرًا على  جودة برنامجها التدريسي، وبالتالي يؤخذ على هذه الكليات قاعدة الغرم بالغنم، ويعتبر فشل أي من خريجها في المرور من المسابقة الأخيرة مؤشرًا على تراجع جودة التعليم لديها.

 لا يعكس ما جرى فشل العملية الأكاديمية في الجامعات فقط، بل يعكس ضعف مستوى التدريب العملي الذي يتلقاه المحامين المتدربين في نقابة المحامين أيضًا، ويعكس عدم قدرتهم على مراكمة تجربةٍ عمليةٍ أمام المحاكم، فالنقابة لا تزال لا تولي عملية التدريب الاهتمام الكافي رغم تشددها مؤخرًا في بعض الإجراءات.

لا يوجد معهدٌ مختصٌ في تدريب المحامين، ويعتمد إقرار تدريب المحامين على شهادة المحامي المزاول بناءً على التزام المحامي المتدرب بفترة التدريب دون أية رقابة عملية تساهم في متابعة تعزيز قدرات المحامي المتدرب، فبعض المتدربين ينهون تدريبهم، وتكون غالبية مهامهم إدارية عند المحامي المزاول المدرب، ولا يتلقون أية مكافآت مالية مقابل تدريبهم، لذا يسعون بوسائل مختلفة للحصول على عمل -دون علم النقابة- مع بقائهم في التدريب دون بناء خبراتٍ قانونيةٍ حقيقية، وبالتالي فإن السياسات المتبعة لتدريب المحامين تشكل عاملاً هامًا في تراجع مستوى تأهيل المحامين.

عملُ المحاكِمِ لا يُساهم في بناء ثقافة قانونية متقدمة للمحامين المتدربين والمزاولين

عملُ المحاكِمِ أيضًا لا يساهم في بناء ثقافةٍ قانونيةٍ متقدمةٍ لا للمحامين المتدربين ولا للمزاولين ولا حتى لزائري المحكمة. قاعات المحاكم صغيرة بغالبيتها، وبالكاد تكفي للمتقاضين، ولا يمكن لآخرين التواجد في قاعة المحكمة لمتابعة المحاكمات، وحين ينطق القضاة أو حتى المحامون تشعر كأنهم يتهامسون. وقد دعوت شخصيًا -في أحد الأيام- مجموعة من طلبة الإعلام لحضور جلسة النطق بالحكم ضد أحد الصحفيين في قضيةٍ أثارت الرأي العام. أجزم أن أحدًا لم يتمكن من الاستماع إلى ما جاء في القرار إطلاقا، لقد فهموا فقط تبرئة الصحافي من التهمة الموجهة له، لكن دون تلاوة قرارٍ قضائيٍ مُحكمٍ ومُبَرَّرٍ يُساهم في تعزيز المعرفة القانونية لكل من حضروا إلى المحكمة.

اقرأ/ي أيضًا: هل سيُقايض القضاة استقلال القضاء بمنافع مالية؟

 جانبٌ آخر للضعف يتعلق بقدرات القضاة وأعضاء النيابة العامة، فقد أُثيرت مؤخرًا عدة انتقادات تتعلق بنزاهة التعيين في سلك القضاء والنيابة العامة، وقُدّمَت طعونٌ بأن بعض التعينات مخالفة للقانون. ولا يزال الفحص الأمني للمتقدمين لتقلد الوظائف القضائية يشكل عاملاً حاسمًا في اختيار القضاة وأعضاء النيابة، وقد كشف أكثر من شخص أنهم نجحوا في الامتحان النظري والعملي وتم رفض تعينهم أمنيًا. هذا عدا عن عدم وجود آلية موحدة لتعيين القضاة، فكل رئيس مجلس قضاء له آلياته الخاصة به.

السلطة الفلسطينية هي الأخرى فشلت في بناء منهجيةٍ تعمل على تأهيل قضاة، فقد أرسلت السلطة إلى معاهد التدريب القضائي طلبة قانون بعد تخرجهم لتلقي التدريب، كما حدث مع مجموعةٍ تكونت من 17 طالبة وطالبٍ تم ابتعاثهم قبل أربع سنواتٍ إلى معهد الدراسات القضائية في جامعة زايد في دبي، بعد عملية اختيار شفافة قادتها وزارة العدل لأوائل طلبة كليات الحقوق في ثلاث جامعات فلسطينية. كلف هذا التدريب المتخصص -الذي يعادل درجة الماجستير من جامعة عريقة- ملايين الدولارات دُفِعَت كأقساطٍ للجامعة؛ وبدل إقامة لمدة عام في أبوظبي؛ ومكافأة مقدراها ثلاثة آلاف درهم شهريًا لكل مبتعث على مدار عام، لكن في النهاية عندما عاد المبتعثون إلى البلد، تنصلت وزارة العدل على الفور من تعيينهم دون أي تبرير لهم أو للجمهور، وذهبت هذه الموارد هباءً منثورًا، مما يدل على فشل الجهات الرسمية في وضع استراتيجيةٍ عادلةٍ للتعيين.

كما فشلت السلطة الفلسطينية في تحويل معهد التدريب القضائي -الذي كلف الخزينة الفلسطينية والمانحين منذ إنشائه لغاية اليوم مبالغ طائلة- إلى رافدٍ لتعيين القضاة بعد تأهيلهم، إذ تمتنع أطراف العدالة عن تحويله إلى آليةٍ وطنيةٍ لتأهيل القضاة وأعضاء النيابة العامة، بينما يعاني المعهد من تهميشٍ حقيقيٍ يحول دون قيامه بدورٍ هامٍ في تأهيل القضاة الجدد والقدامى.

فشلت السلطة الفلسطينية في تحويل معهد التدريب القضائي إلى رافدٍ لتعيين القضاة بعد تأهيلهم

 من الصعب التشكيك بنتائج عمل لجنة المسابقة القضائية التي شُكّلت لاختيار قضاة صلح، فقد تكونت من قضاةٍ يُشهد لهم بالكفاءة والنزاهة، وتمت عمليات الفحص بشفافيةٍ تامةٍ وبحضور مراقبين عن مؤسسات المجتمع المدني، وكان مستوى الامتحان النظري بنفس مستوى الامتحانات السابقة وفق ما أكده أعضاءُ لجنة المسابقة للمراقبين من المجتمع المدني، في حين يقول بعض المتنافسين أن الامتحان بني على قضايا جدلية لا يوجد حولها رأيٌ موحد،  وجرت المقابلات الشفوية بحضور ممثلي عن مؤسسات المجتمع المدن.

لم تتركز أسئلة المقابلات الشفوية على المعرفة النظرية للقانون فحسب، بل هدفت إلى فحص معايير عملية هامة في من يتوجب أن يتولى عمل قاضٍ، مثل مدى إيمان المتنافس باستقلالية القضاء كمؤسسة واستقلاله كقاضي، وفحص ماضي المتنافسين من أية شبهاتٍ مصدرها وجود دعاوى جزائية أو حقوقية بحقهم، ورؤيتهم لواقع القضاء وخطط عملهم كقضاة لتحسين هذا الواقع،  وردة فعلهم المتوقعة لمواجهة أي ضغوط قد تمارس عليهم من سلطاتٍ قانونيةٍ أو تنفيذية، وقوة شخصيتهم، إضافة إلى فحص ثقافتهم القانونية ومدى اطلاعهم على الأحكام التي تصدرها المحاكم الفلسطينينية.

المعايير التي استخدمتها اللجنة في تقييم المتسابقين لم تكن مجحفة إطلاقًا، بل هي ضروريةٌ وواجبةٌ في أية مسابقاتٍ قضائيةٍ قادمة، فالشفافية بالتعيين ضرورية حتى لو لم ينجح أيٌ من المتسابقين،  لكن في المقابل على مجلس القضاء أن يبحث عن آلياتٍ جديدةٍ تضمن رفده بقضاةٍ أكفَّاءَ بعيدًا عن سياسات التخبط التي بددت الموارد، وأفقدت التعيينات القضائية شفافيتها وعدالتها خلال السنوات الماضية.


اقرأ/ي أيضًا:

اقتناص الوظائف العليا في دولة يحدها حزب واحد

حين يضيع الصلح حقوق الضحايا.. أوراق من غزة

انقسام القضاء يسلب أمهاتٍ وآباءً حضانة أطفالهم