11-يونيو-2018

نعيش حالة خجل من تسمية الأمور بمسمياتها، أو أننا أحيانًا ننهال على بعضنا بكل ما لا يخطر على البال من صفات مخجلة لمجرّد الرغبة في قول ذلك. لا حلول وسط لدينا، فإمّا الانعطاف إلى أقصى درجات المدارة والتستّر أو الركض السريع نحو التجريح.

لا يمكننا تصحيح كل شيء، نحن ندرك هذا، ولكن الأمور الخاطئة تظل مؤذية للعين مهما تكررت رؤيتها. ومهمة التجارب الأولى أن تعلّمنا كيف نتعامل مع أشباهها في المرات القادمة دون أن ننهار ودون أن نفقد التركيز، فعندما تريد أن تخبر أحدهم أنّه يرتكب خطأ ما، عليك أن تعرف كيف تقولها دون أن تصبح أنت المخطئ. عليك أن تقولها بحزم لا يجعل خطأه قابلًا للمناكفة، ولكن عليك أن تحفظ له حقّه بالعودة إلى الصواب.

     يا لها من فكرة تعيسة أن تحاول أن تبهر عدوك! تريد أن تعدل صورتك في عينه، تريد أن تقنعه بأنك إنسان مثله؟ ثم ماذا؟   

أخطأت شمس أبو مخ، وهذه المقدمة الطويلة لا داعي لها سوى التأكيد على أن الحديث عن السيدة الفلسطينية التي قررت المشاركة ببرنامج إسرائيلي "الأخ الأكبر" ليس حديثًا شخصيًا وليس نميمة صحفية وليس بابًا لجلد السيدة التي جلدت صورتها وصوتها متحدثة بالعبرية قلوب الكثيرين. فلماذا فعلت شمس أبو مخ ما فعلت؟

ليس ما سأقوله اليوم وصفة للتقليل من بشاعة ما قامت به شمس، إنما هي محاولة لمواجهة المطبّعين والمتحمّسين له والممارسين له عن جهل أو علم بطريقة جديدة ربما. المشكلة هُنا هي الخيبة التي تصيبنا في كل مرة نجد أنفسنا نتحدّث عن بديهيات كنّا نظنّها لا تحتاج للشرح، عن مفردات كانت بالنسبة لنا مثل الكلمات النابية لا يجوز حتى التلفظ بها، لا نعلم كيف تحولت إلى مواضيع خلافية!

فلنترك الخيبة جانبًا ولنتحدّث عن شمس التي وضعت شروطًا تحافظ من خلالها على خصوصيتها كامرأة محجبة تشارك في برنامج واقعي إسرائيلي، فهل كانت تظن أنّ هذا أهم ما قد يثير غضب المتابعين؟

تقول شمس كما يقول الكثيرون ممن قرروا أن مشاركة الإسرائيليين برامجهم وبضائعهم ورياضتهم وبحوثهم العلمية والأدبية ليست خيانة، تقول إنها تريد أن يرى المجتمع الإسرائيلي المرأة العربية المحجّبة بصورة مختلفة. ورغم أنّ السيدة أكدت أنّها لا تمثّل إلّا نفسها في البرنامج، وذلك ربما للنأي بعائلتها عن أي مشاكل أو ضغوطات قد تتعرض لها، إلا أنها ما تلبث أن تتحدث عن صورة المرأة المحجبة التي تريد أن تنشرها، وعن الصورة النمطية للمرأة العربية التي تريد أن تغيّرها، وعن.. وعن، إذًا هي لا تتحدث عن نفسها فقط وأحلامها الشخصية، بل  تتحدّث عن صفات تتشاركها مع العديد من نساء الحيّز العام الذي تعيش فيه، واللواتي سيعترضن على إقحامهن في هذه اللعبة أو أن يكون سلوك شمس ممثلًا لهن، أو أن في أنفسهن حاجة لما تحاول شمس إثباته.

    المجرم يرسم لضحيته المسرح الذي ستظهر عليه متحدثةً عن نفسها    

يا لها من فكرة تعيسة أن تحاول أن تبهر عدوك! تريد أن تعدل صورتك في عينه، تريد أن تقنعه بأنك إنسان مثله؟ ثم ماذا؟ يضغط الشعب على الحكومة لتنتهج سياسات أكثر رحمة تجاهك أنت وأبناء شعبك؟ ولكن ماذا لو كان ما تعتقده خاطئًا؟ ماذا لو كان ظهورك عبر شاشات التلفزيون الإسرائيلي مشاركًا الإسرائيلين الحديث والضحك ليس إلّا وسيلة لنفي وجعك، ولإثبات أنّ كل شيء على ما يرام في هذه "الدولة المتنوعة الأعراق المتعددة الديانات، هذه "الدولة الديمقراطية" لا تحتاج إلى أي إضافات أو تعديلات!

أخطر ما في عربية شمس التي تظل تكررها، هو أنّها تأتي بديلًا عن فلسطينيتها، و"عرب الداخل" هو الوصف المحبب  لدى دولة الاحتلال عند التعريف عن فلسطينيي المناطق المحتلة عام 48، فهي بذلك تحوّلهم إلى إحدى الأقليات أو الجماعات العرقية أو الدينية في المجتمع الإسرائيلي، ملغية بذلك وجود الفلسطينيين ككيان سياسي اجتماعي قبل قيامها.

المجرم يرسم لضحيته المسرح الذي ستظهر عليه متحدثةً عن نفسها، وسينجو هو في كل مرة تتحدث ضحيته عن تجاربها ومشاعرها وأحلامها. وفي كل مرة تظن الضحية أنها تساعد غيرها من خلال الحديث عبر هذا المسرح تكون فعلياً قد تركت ضحايا كثر في أماكن موحشة ومخيفة نافية وجعهم، معلنة براءة من تسببوا لهم بهذا الوجع. ستتغير القصة وستتغير الأدوار طالما أنك تستخدم مسرح عدوك للحديث عن قصتك. إلا إذ لم تعد مقتنعاً بأن عدوك هو عدوك!


اقرأ/ي أيضًا:

اللوبي الإسرائيلي في الإعلام العربي

الإعلام.. جندي لصالح "إسرائيل"؟

نحن والإعلام الإسرائيلي.. ثلاث ملاحظات