14-أغسطس-2017

SAIF DAHLAH/AFP/Getty Images

"شهقة الملوخية" هي السرّ الذي يجعل "الملوخية المصرية" الأطيب على الإطلاق كما يقولون، حيث أن تزامن الشهقة مع وضع الثوم المقلي على الملوخية ضمان أكيد للحصول على طبق طيّب، ورغم أنّ الشهقة قد تبدو فكرة غير منطقيّة، حيث يستحيل أن يؤثّر أي صوت تصدره خلال الطبخ على نكهة الطعام الذي تحضّره، إلّا أنّ للمتمسّكين بهذه الشهقة رأي آخر على ما يبدو.

 ماذا عن الشهقات التي نمارسها بلا داعي أو معرفة، وإنما خوفًا من الخروج من المجموعة، أو عدم الانتماء لها بالشكل المطلوب، أو لأننا نظن أنّ لها تأثيرًا مُهمًّا على حياتنا؟

كلّ الحكايات عن تاريخ الشهقة تشير إلى أنّ سببها كان الخوف، فإحداها تقول إنّ امرأة خافت من أن يحرق الثوم المقلي صدرها فشهقت، وأخرى أنّ الملك جاع بينما لم يكن الطعام جاهزًا، ولما علم الطبّاخ بجوع الملك خاف وشهق، وتزامن ذلك مع وضعه الثوم على الملوخية. ورغم أنّ الشهقة لم تكن منذ البداية وعدًا بملوخية طيّبة إلّا أنّها تحولت بعد ذلك إلى طقس من طقوس إعدادها.

بعيدًا عن الملوخية، وقريبًا من السياسية والدين والعادات الاجتماعية، هل هناك "شهقات" أخرى نمارسها بلا داعي أو معرفة، وإنما فقط خوفًا من الخروج من المجموعة، أو عدم الانتماء لها بالشكل المطلوب، أو لأننا نظن أنّ لها تأثيرًا مُهمًّا على حياتنا؟

لطالما لُقّب المنتسبون لجماعة الإخوان المسلمين في مصر بـ "الخراف" كدلالة على أنهم يتبعون قادة التنظيم دون تفكير، ويقدّمون لهم واجب السمع والطاعة دون سؤال أو استفسار، وفقًا لمطلقي هذا اللقب. وإذا كنت لا تعرف لماذا الخروف بالذات وكيف تحوّل هذا الحيوان اللطيف إلى شتيمة أو نكتة، فعليك أن تقرأ ما كتبه الراهب والكاتب الفرنسي فرانسو رايليه عن الخروف، حيث قال: "رمى فى قلب البحر خروفه دون أن يقول أيّ شيء آخر، يصرخ ويثغو، فبدأت الخراف الأخرى التي تصرخ وتثغوا فى سماع أصوات كهذه، تلقي بنفسها فى البحر بالتتابع، وسقط الحشد فى البحر.. كلّ خروف بعد الآخر، ولم يكن من الممكن الاحتفاظ بالخراف، كما تعرفون، فالخروف بطبيعته يتبع الأول أينما ذهب". أمّا أرسطو فقال عنه إنّه الحيوان الأكثر حمقًا فى العالم".

لم تنجح الثورات العربية بعد في تحقيق أهدافها بالوصول إلى مجتمعات حُرّة، وسُرقت، وتسلقها الكثيرون، وشوّهت وتوجر بها كثيرًا، ورغم كل الخيبات التي خلقتها في نفوس المتحمسين لها وللتغير الذي ستجلبه، إلّا أنها نجحت في كشف الواقع الفكري للعديد من التنظيمات الحزبية العربية، حيث أثبتت هذه الثورات والأحداث المعقدة التي نتجت عنها أن "الخراف" - والقصد هنا التعبير عن حالة التبعية الفكرية - موجودون في كل الأحزاب حتى تلك التي طالما اعتُبر أعضاؤها أكثر انفتاحًا وتحررًا.

 كم شهقة سياسية ودينية واجتماعية نشهق يوميًا لأننا نخاف الاختلاف 

لطالما فكّرنا كما جرت العادة أن نفكر، فحتى التفكير يحدث ضمن طقوسٍ من العادات والتقاليد تشبه تلك التي نمارسها في أفراحنا وأتراحنا. حسنًا لطالما فكّرنا أن الأحزاب الدينية وحدها من تحظى بنسبة عالية من "الخراف" نظرًا لقيامها على أساس عقائدي غالبًا ما تتداخل فيه التعليمات الإلهية بتوجيهات قادة الحزب، لقطع الطريق على الأصوات المعارضة، وكنّا نحسب أنّ هذا أعظم ابتلاء يصيب عقل الإنسان، ولكن تبيّن لنا أنّ أسوأ أشكال الاستعباد ليس الذي يمارسه إنسان على آخر باسم الله، بل هو الاستعباد الذي يُمارس باسم الحرية. وأنّ أخطر الابتلاءات ليست تجاهل القيم الانسانية، بل خيانتها باسم قيم إنسانيّة أخرى.

لقد أثبتت الأحداث التي تشهدها العديد من الدول العربية أنّ الانسان كائن لا يحب أن يتوقف عن التصفيق لأفكاره التي اعتاد على صحتها مهما كانت معطيات الواقع تخبره بأن يتمهل قبل أن يصفّق، وأنه لا يتوانى عن خلق "شهقات" جديدة للأجيال القادمة في كل مرة تسنح له الفرصة بذلك.

نسأل أنفسنا الآن كم شهقة سياسية ودينية واجتماعية نشهق يوميًا لأننا نخاف الاختلاف، ونرغب دومًا بالانتماء لجماعة ما؟ لأننا نخاف النبذ أو التخوين أو الاستحقار، كم كلمة نردد دون أن نفهم، وكم غضبًا نمارس دون أن نشعر به حقاً، وكيف أمكننا أن نتحمّس هكذا لأفكار يخبرنا الواقع كل يوم أنّ علينا أن نعيد التفكير بها مجددًا.

قد تصيبك قصيدته "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" للشاعر أمل دنقل بنوبة حزن ويأس شديد، خاصة عندما يقول: "لا تحلموا بعالم سعيد.. فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد"، فماذا لو كُنّا نحن القياصرة الذين نهين أنفسنا ونسطو عليها. ماذا لو كُنّا نحن الذين نسلبها حقّها بالسؤال والرفض والتراجع عن فكرة كانت قد آمنت بها لأننا نخاف؟ 

 


اقرأ/ي أيضًا: 

أقلكم ع حاجة: الانقسام كان لعبة!

قانون الجريمة الإلكترونية: الأخ الأكبر يراقبك!

الفلسطينيون الحقيقيون في كوبر والقدس