11-أبريل-2024
استهداف الصحفيين

 من أجل أن تصل صورة غزة إلى العالم وتبقى "التغطية مستمرة" لم يبخل صحفيوها بأرواحهم ودماء أسرهم ومنازلهم، ودفعوا نصيبًا وافرًا في "فاتورة" الدم والدمار والنزوح خلال الحرب الإسرائيلية المستعرة التي توشك على دخول شهرها السابع.

تمر أيام الحرب وشهورها والصحفيات والصحفيون يتخذون من الشوارع والميادين بيوتًا، لا يُعرف لهم ليل من نهار، يلاحقون أخبارًا وأحداثًا تفوح منها رائحة الدم. غارة جوية إسرائيلية هُنا، وقصف مدفعيّ هناك، واجتياح بريّ للمدن والمخيمات لم يترك الاحتلال خلاله جريمة من موبقات الحرب إلا وارتكبها، بالإعدام الميداني واستخدام المدنيين دروعًا بشرية، واستهداف المرافق الصحية، وتدمير المنازل السكنية فوق رؤوس ساكنيها.

"هذه حرب غير مسبوقة ولا خطوط حمراء فيها، كل شيء فيها مستباح"

"في مرات كثيرة أصبحنا نحن الخبر"، يقول صحفيون وصحفيات في أحاديث خاصة مع "الترا فلسطين" من مدينة رفح، التي تحتضن أكثر من نصف الغزيين، وغالبية الصحفيين، الذين أجبروا على النزوح مرارًا حتى استقر بهم المقام -ولو مؤقتًا- في هذه المدينة الصغيرة أقصى جنوب القطاع على الحدود مع مصر. 

ومنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية عقب عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، لم تخل قوائم الشهداء والجرحى والمعتقلين من الصحفيات والصحفيين، ووفقًا لتوثيق "المكتب الإعلامي الحكومي" استشهد منهم 140 واعتقل 12 وأصيب بجروح عشرات آخرين.

مسؤولية وطنية ومهنية

وعن تجربة الحرب والأثمان الباهظة التي يدفعها الصحفيون في سبيل نقل الحقيقة، يقول مراسل قناة (تي آر تي) التركية سامي برهوم: "منذ اليوم الأول للحرب أدركنا أننا أمام مسؤولية كبيرة، وعلينا تحمل هذه المسؤولية، وقد أثبتنا كصحفيين فلسطينيين أننا على قدر عال من المهنية، وواجهنا تحديات كبيرة وخطرة حتى أننا بتنا في دائرة الاستهداف الإسرائيلي".

الصحفي سامي برهوم
الصحفي سامي برهوم

"هذه حرب غير مسبوقة ولا خطوط حمراء فيها، كل شيء فيها مستباح، والهجمات الإسرائيلية لم تستثن شيئًا على أرض غزة، فاستهدفتنا كصحفيين، واستهدفت الطواقم الطبية والمستشفيات وسيارات الإسعاف والمدارس والجامعات والمدارس"، إلا أن برهوم ما يزال يتمتع بالعزيمة والإصرار على مواصلة التغطية.

ورغم إدراكه أنه قد يفقد حياته في أي لحظة خلال عمله الميداني، يقول برهوم: "نحن في طريق ندفع فيه ثمنًا كبيراً، ولكننا مؤتمنون على أداء الرسالة، والتغطية ستبقى مستمرة ليصل صوت وصورة غزة للعالم".

"قبل أن أكون صحفية فأنا مواطنة نازحة وأم، وزوجي أيضاً صحفي، والمعاناة في هذه الحرب أنني كأم أمارس أدوارًا كثيرة وهو ما يجعل العبء مضاعفًا"

مهام مركبة 

ليست مخاطر الميدان وحدها التي تمثل تحديًا لنور السويركي الصحفية المتعاونة مع تلفزيون "الشرق"، فهي زوجة وأم لطفلين، تأخذ أسرتها حيزًا كبيرًا من تفكيرها على مدار اللحظة، وهي التي تغيب عنهم لفترات طويلة يفرضها واقع عملها الصحفي بالميدان.

وهذه هي التجربة الأولى لنور في تغطية الحروب، وتقول: "عايشنا عدة حروب في غزة خلال السنوات الماضية، لكن ليست كهذه الحرب الوحشية والهمجية، وكذلك من حيث مدتها الزمنية، فقد مضى علينا نصف عام ونحن جميعاً في دائرة القتل والموت والاستهداف".

الصحفية نور السويركي
الصحفية نور السويركي

بعد هذه الشهور الطويلة تقر نور بتعبها والإرهاق الذي أصابها جسديًا ونفسيًا، لكنها سرعان ما تتمالك نفسها وتستعيد عافيتها، كي تتمكن من مواصلة العمل والعطاء مهنيًا وأسريًا، وتقول: "قبل أن أكون صحفية فأنا مواطنة نازحة وأم، وزوجي أيضاً صحفي، والمعاناة في هذه الحرب أنني كأم أمارس أدوارًا كثيرة وهو ما يجعل العبء مضاعفًا".

ورغم كل هذه المعاناة إلا أن نور ترفض السفر ومغادرة غزة، بدافع "الحب الكبير" لغزة لديها، لكنها في الوقت نفسه تتمنى ألا يأتي الوقت الذي تجد نفسها مضطرة إلى المغادرة، إذا ما اقترب الخطر أكثر فأكثر من طفليها، وازدادت لديهما الرغبة في الابتعاد.

فقدت نور من عائلتها شهداء وجرحى خلال الحرب، لكنها لم تبك كما بكت يوم وداع أسرتها لشعورها بالوحدة، وتقول: "شعور الوحدة كشعور الفقد، كثير مؤلم ويدمي العين والقلب".

مواقف إنسانية

وعن أكثر المشاهد والمواقف الإنسانية التي مرت بها خلال تغطيتها للحرب وتأثرت بها وستبقى عالقة في ذاكرتها، كانت الأطفال الذين يعانون من الجوع، وتقول نور إنها تذكرت طفليها وهي تشاهد هؤلاء الأطفال وقد أنهكهم الجوع وفتك بأجسادهم الغضة.      

تتفق الصحفية فاطمة أبو نادي مع نور على أن هذه الحرب بكل تفاصيلها وتداعياتها مختلفة كليًا عن الحروب السابقة، وتقول: "في الحرب الحالية رأينا وخضنا في كل شيء فاق حد الاستيعاب والإنسانية".

الصحفية فاطمة أبو نادي
الصحفية فاطمة أبو نادي

فاطمة تعمل مع موقع "غزة برس" ونزحت مع أسرتها من شمال القطاع إلى مدينة رفح، وخاضت - كما غالبية الغزيين – في تجارب التشرد والنزوح المتكررة، ومرت بأحداث ومشاهد كثيرة مؤلمة، لكنها تأثرت بشدة بمشاهد الأطفال حديثي الولادة (الخدج) في مستشفى الشهيد كمال عدوان، الذين خرجوا من ظلمات أرحام أمهاتهم إلى ظلم عدو لا يرحم، ومنهم أطفال فقدوا أسرهم بالكامل وسيكملون حياتهم أيتامًا.

أما الصحفية آية عدوان وتعمل لصالح موقع "نوى" المحلي، تقول إنها تعيش القصص الإنسانية التي تنجزها، وتجسدها بالكلمة والصوت والصورة، وستعيش معها طويلاً، ولن تتمكن من التخلص من آثارها الشديدة قريبًا، فهذه الحرب -برأيها- هي الأشد والأقسى والأكثر مرارة.

الصحفية آية عدوان
الصحفية آية عدوان

وذاقت آية نفسها هذه المرارة عندما فقدت شقيقتها "ولاء" شهيدة تحت أنقاض منزل زوجها، الذي دمرته غارة جوية إسرائيلية فوق رؤوس ساكنيه، وتساءلت بحرقة: "حتى لو توقفت الحرب اليوم، فكيف يمكننا أن نتخلص من كم الحزن الذي يعتصر قلوبنا على فراق الأحبة؟".