منذ نحو تسعة أعوام تقريبًا تواظب الحاجة "أم محمد ربيع" وزوجها، على استهلال اليوم الأول من كل عيد بزيارة ضريح ابنهما "بهاء"، الذي يرقد جثمانه في مقبرة الشيخ رضوان وسط مدينة غزة، بعد ارتقائه شهيدًا إثر عدوان 2008 على قطاع غزة المحاصر.
تصحب أم محمد وزوجها، في العقد السادس من العمر، حلوى (غّرَيبة)، لتوزيعها على الصغار والكبار المتوافدين إلى المقبرة، مطالبة إياهم بقراءة الفاتحة على روح نجلها. ذلك بعد أن تكون قد أجهدت نفسها بالبكاء، وقرأت ما تيسر من القرآن بيدين مفتوحتين إلى السماء.
وترى "أم محمد" التي لا زالت تتشح بالسواد، أن لا شيء قادر على تعويض أمٍ عن فلذة كبدها الذي فقدته، وأن من حق الشهداء على ذويهم أن يودّوهم على الأقل في العيد، قائلة: "إنهم يشعرون بنا.. هم أحياء عند الله".
تزدحم القبور بالزوار في أيام الأعياد، وتحديدًا أول أيامها، إذ يتمسك الأهالي بزيارة موتاهم وقراءة الفاتحة لهم وغسل قبورهم
ويفتح العيد بابًا على الحزن عند كثيرٍ من الأهالي، خاصة عوائل الشهداء، إذا يتوافد المئات منهم بعد أداء صلاة العيد مباشرة، إلى المقابر لزيارة الأضرحة وقراءة الفاتحة على أرواح الأموات.
اقرأ/ي أيضًا: العيدية.. عادات تبهج العرائس وتكلف العرسان غاليًا
على بعد متر واحد من أم محمد وزوجها، يغسل الخمسيني أبو خليل موسى ضريح نجله الشهيد الذي ارتقى في عدوان 2014 على قطاع غزة. يقول أبو خليل، إنه اعتاد على زيارة ضريح نجله للعيد الخامس على التوالي، بهدف إلقاء التحية عليه، وقراءة القرآن على روحه.
هذه العادة، ليست متعلقة فقط بذوي الشهداء، إذ يحافظ عليها كذلك فئة كبيرة من السكان في غزة، لاسيما ممن فقدوا عزيزًا على قلوبهم، سواء كان أمًا، أو أبًا، أو أخًا، أو صديقًا.
الشاب خالد عبد الهادي، جاء المقبرة زائرًا أخاه المتوفى قبل نحو (24 عامًا). يقول خالد، إنه ورث هذه العادة، عن أمه التي كانت تصحبه مذ كان طفلاً في صبيحة العيد لزيارة المقبرة، وقد كانت تجلب معها باقة من الورد لنثره على الضريح.
قبل خروج الشاب خالد من البيت، تُحمّله أمه، التي لم تعد تقوى على هذه الزيارات، بعض الحلوى، وتطالبه بإيصال السلام لأخيه المتوفى. يقول: "تصر أمي على إفاقتي باكرًا قبل البدء بصلاة العيد، وتحملني أمانة إيصال السلام لأخي المتوفى، وتوزيع الحلوى على الناس، قربانًا لله حتى يغفر له ويتقبله في الجنة".
وتشكل زيارة القبور، مصدر رزق للعديد من مقرأي القرآن من الفقراء، إذ يتنقلون بين الأضرحة في صبيحة العيد وهم يحملون المصاحف في أيديهم، لغاية تلاوة بعض آيات القرآن على سماع أهالي الأموات، ليحظوا في المقابل بالقليل من الشواكل.
المقابر تصبح موقعًا لكسب الرزق والتسول أيضًا من كبارٍ وصغارٍ خلال الأعياد في غزة
وكنوع من أنواع التسول، يتهافت أطفال صغار، يحملون جالونات مياه لغسل الأضرحة، لعلهم يظفروا بصدقة من ذوي الأموات.
وليست زيارة القبور العادة الوحيدة المرتبطة بالعيد؛ بالنسبة لذوي الشهداء أو المتوفين، إذ جرت العادة أن يفتح أهل الميت بيت عزاء صغير، في صبيحة اليوم الأول للعيد، ويستمر حتى صلاة الظهر تقريبًا، يقدم فيه التمر والقهوة، لكن المفارقة أن رواد بيت العزاء، يهنئون بالعيد.
ويقرأ الأخصائي الاجتماعي والنفسي عطا أبو ناموس، في هذه العادات أنها ناتجة عن وجود ارتباط عاطفي وحالة وجدانية بين الأحياء وذويهم من الأموات، مبينًا، أن هذه العادة مرتبطة بدافع نفسي أكثر منه أرثًا اجتماعيًا أو طقسًا اعتاد الناس على ممارسته في صبيحة اليوم الأول للعيد.
ويشير أبو ناموس إلى أن هذه الظاهرة بدأت مع اندلاع انتفاضة الحجارة عام 1987، واستمر الناس في ممارستها كدلالة على حجم الحب الذي يكنه الأحياء للأموات، مؤكدًا في الوقت ذاته أن الشعب الفلسطيني عاطفي بطبعه، وأن الحزن يحتل مساحة في قلبه، حتى في أسعد لحظاته.
اقرأ/ي أيضًا:
في العيد.. لا ترضى إلا بالكعك المدلل