مثل أقاربهم خارج السجون، يتهيأ الأسرى لاستقبال الأعياد، فهي مناسبات لخلق أجواءٍ خاصة يُفترض أنها سعيدة، وإقامة طقوس مختلفة تميزها عن روتين بقية الأيام القاتل. فبالرغم من قلة الإمكانيات المتاحة؛ والقيود التي تفرضها إدارة السجون، الا أننا كنا نصر على انتزاع الفرحة وسرقة البسمة.
كنا نستبق العيد بيومين أو ثلاثة بتجهيز الحلويات، ويتكفل المطبخ المركزي عادة بإعداد المعمول والكلاج والهريسة والبقلاوة وغيرها من الأصناف، في حين كانت تقوم كل غرفة بعمل أصناف خاصة بها، إن حبت الاستزادة، وكان رصيدها المالي في "الكانتينا" (المقصف) جيدًا.
يعد الأسرى حلوياتٍ خاصةٍ ويشترون الفواكه من مقصف السجن احتفالاً بالعيد، وينظفون جماعات أقسام السجن حيث يقبعون
ويمكنك بسهولة أن تشم الروائح الطيبة الزاكية المنبعثة من القسم، ونظرًا لعدم وجود أفران الغاز، كان الطباخون الأسرى يضطرون لاستخدام "البلاطة" بعد قلبها وتعليقها من طرف عصا "القشاطة" وتثبيتها بنافذة الغرفة، وتدليتها على "الصينية"، وتقريبها من الجهة المراد تحميرها. كان الأسرى عمومًا يعتقدون أن كل شخص من نابلس يتقن عمل الحلويات، ويستغربون حال ثبت لهم العكس. ولطالما كنت أسمع عبارة: "من نابلس وما بتعرف تعمل حلويات؟ غريب!".
اقرأ/ي أيضًا: إفطار في معتقل عوفر
كنا ننشغل، كما هو الحال خارج السجن، بتنظيف الغرف والنوافذ والحمامات، وترتيب الأبراش (الأسرّة) وساحة الفورة (التنفس). كان الماء يخرج من أسفل باب كل غرفة كأنه نهر جارٍ، التنظيف هذا كان مصحوبًا بصيحات "المرداونية" الداعية للاستعجال وإنهاء المهمة بأقصر وقت ممكن، في حين كانت تشهد المحلقة "صالون القسم" اكتظاظًا وازدحامًا وحجزًا للدور وتجاوزًا له أحيانًا.
ولا ينسى الأسرى تجهيز ملابسهم وتفقدها، ولا عجب أن ترى عند أحدنا المتقن للخياطة عدة "بلاطين" و"بلايز" بحاجة لتقصير أو تخصير أو رقع. وفي حال علم الأسرى بوجود من يتقن فنون الكيّ سارعوا بإرسال ملابسهم إليه. كان تبادل الملابس بيننا أمرًا اعتياديًا ومشهدًا مألوفًا، فالمعتقلون يستقرضون من بعضهم، ويجود القدامى منهم ويقدمون الفائض عن حاجتهم لزملائهم الجدد القادمين لتوهم من التحقيق.
في صبيحة يوم العيد، كنا نظل مستيقظين بعد صلاة الفجر، وما إن تفتح الإدارة أبواب الغرف، حتى يهرع الأسرى ويهرولون كأنهم جراد منتشر إلى "الدشات" طمعًا بحمام دافئ سريع، ومن لم يحالفه الحظ ويفشل في السباق، كان يطلب من غيره "حجز الدور"، ومن لم ينجح في هذه أو تلك، كان يضطر للاستحمام داخل الغرفة.
والحمام في الغرفة ليس بالأمر السهل، بل هو بمثابة "شر لا بد منه"، إذ يحتاج لتسخين الماء من "القمقم" عدة مرات وسكبها في السطل، ونظرًا لصغر الحمام تكون الحركة محدودة، عدا عن خطر التزحلق بسبب الدرجة الداخلية والأرضية "الملسة"، وكثيرًا ما كان يُصاب الأسرى، خاصة الجدد، بكدمات وجروح بسيطة نتيجة سقوطهم داخل الحمامات.
بعدها تبدأ مرحلة التمشيط والتعطر ووضع الطيب، وهذا الأخير لا يكون إلا بحوزة الأسرى القدامى. والعطر له حكاية، فهو في الغالب يكون مهربًا من خارج السجن خلال زيارة الأهل، بعد نقعه في "جراب" جديد حتى يشرب العطر كله بشكل كامل، ثم يضعه الأسرى داخل زجاجة فارغة ويضيفون عليه معقم الجروح الشفاف "السبيرتو" المأخوذ خلسة من عياة السجن، ثم توضع المادة الناتجة عن خلط الجراب مع "السبيرتو" في علبة "قطرة عيون فارغة"، لتتحول بعدها إلى عطر فرنسي فاخر.
يحصل الأسرى على العطور تهريبًا بوسائل خاصة يُستخدم فيها "جرابات" جديدة، ومعقم جروح، وعبوات فارغة
قبل الصلاة بنصف ساعة أو يزيد، تسمع أصوات تكبيرات العيد مصحوبة بالطواف داخل الساحة بشكل دائري. والطواف هنا إجباري، فهو الوسيلة الوحيدة للتغلب على صغر المساحة، أما التكبيرات فكان بعضنا يفضل ترديدها مختصرة مكتفيًا بمطلعها الأول، وبعضنا كان يحبذها كاملة لنهايتها، وذلك تبعًا لمنطقة سكنه والطريقة التي اعتاد عليها، وإجمالا كان أهل الشمال يفضلونها كاملة، على عكس سكان المحافظات الجنوبية.
وما إن يعتلي الخطيب منبره (الاعتلاء هنا وقوف فقط مرتكز على كرسي أمامه)، حتى تبدو وجوه الأسرى حزينة شاحبة، وعقولهم سارحة وأذهانهم مشوشة. يبدو الحزن واضحًا في عيونهم ونظراتهم، إذ يتخيلون أنفسهم خارج الأسوار بين أهليهم، وكل واحد فيهم يستعيد شريط ذكرياته عن المكان الذي كان يصلي فيه العيد، فيما يحاول الخطيب هنا رفع الهمم والمعنويات، وتذكير الأسرى بنعيم الآخرة، وغاية اعتقالهم وسمو مبادئهم.
بعد الصلاة كنا نصطف على شكل طابور ونبدأ بالسلام على بعضنا عناقًا وتبادلاً للقبلات، ونصبح بعدها بحاجة لحمام جديد. في هذه الأثناء يسامح الأسرى بعضهم، وتصفى قلوب المتشاحنين ويطيب خاطرهم، بعد ذلك كنا نشرع بأداء بعض الأناشيد والأهازيج الشعبية، وهنا غالبًا ما تتدخل إدارة السجن فتمنعنا حتى من رفع الصوت والتصفيق والدبكة.
يتبع ذلك تناول الحلويات والعصائر والفواكه المختلفة، إضافة الى سندويشات خفيفة، مصحوبة بقليل من المزاح، تليها فقرة زيارة معرض الصور، صور أبناء الأسرى وأقاربهم التي تثبت على طاولة التنس بلاصق جروح مسروقٍ من عيادة السجن، مع دفتر صغير لكتابة التعليقات والملاحظات، كانت فكاهية في أغلبها.
تتناسى الفصائل خلافاتها في العيد، فيتبادل ممثلوها داخل الأقسام الزيارات ويقدمون التهاني في مشهد وحدوي استثنائي
وفي هذا اليوم تتناسى الفصائل خلافاتها وتضعها جانبًا، ولو بشكل مؤقت، ويتزاور ممثلو هذه الأحزاب فيما بينهم داخل الأقسام المتعددة، ويقدمون التهاني لبعضهم البعض في مشهد وحدوي استثنائي. وخلال العيد تنظم اللجنة الرياضية دوريات ومسابقات في كرة الطائرة والتنس والشطرنج، وتمنح الفائزين جوائز مالية تصرف على شكل "شيك" أو "كوبون" من "الكانتيا".
أجواء العيد هذه قصيرة تنتهي قبل صلاة الظهر بساعتين تقريبًا، ولا يتبقى منها سوى مشاهدة المسرحيات على التلفاز، كلها مكررة معادة بطلها عادل إمام: "شاهد مشفش حاجة.. الزعيم.. الود سيد الشغال".
والأعياد من أصعب الايام التي كنا نمر بها، خاصة نحن معشر المتزوجين، فالبعد عن الأهل في هذه اللحظات تجربة قاسية مريرة، بعضنا كان يعيشها للمرة الأولى في حياته، وبعضنا للمرة الثلاثين.
اقرأ/ي أيضًا:
أعياد الأسرى.. قطايف و"بوظة" وشوق لتفاصيل صغيرة