في الجنوب الشرقي من نابلس، حيث التلال المُرتفعة التي تُشرف على ما حولها وعلى الأغوار، يقع جبلٌ عالٍ يزيد ارتفاعه عن 840 مترًا، وهو الجبل الرابع في العُلو في محافظة نابلس، يتوسط قرى: بيتا، عورتا، عقربا، يانون، ويعرفه الأهالي باسم جبل العرمة. على قمة الجبل تقوم خربةٌ أثريةٌ هامةٌ تحمل ذات الاسم، صُنّفت بأنها واحدةٌ من تلال العصر البرونزي المتوسط، وقد شهدت التتابع الحضاري حتى بداية العصر الإسلامي الأول، كما دلت الحفريات واللقى الأثرية.
على قمة جبل العرمة تقوم خربةٌ أثريةٌ تحمل ذات الاسم، صنفت بأنها واحدة من تلال العصر البرونزي المتوسط
وتُعتَبرُ خربة العرمة من أملاك بلدة بيتا جنوب نابلس وداخلةٌ في حدود أراضيها، وكان المؤرخ الفلسطيني مصطفي الدباغ قد ذكرها بقوله: "خربة العُرْمَة في الشمال الشرقي من عقرباء، تقع على جبل العُرْمَة، وترتفع 843 مترًا عن سطح البحر".1
العرمة في اللغة
العُرمة في اللغة العربية تعني حُزمة القش، أو كومة القمح المدروس الذي لم يُذر بعد. وتجمع على عُرُمات وعُرْمات وعُرَم، وقولنا: عَرّم الإناء إذا ملأه ورفع ما فيه للأعلى، فهو مُعرّم. وَنَصِفُ المكان المُعرم بأنه عُرمة. 2
لكن لماذ سُمي الجبل بالعُرمة؟ هذا أمرٌ أعتقد بأنه واضحٌ ولا يخفى على من زار الجبل أو طالع الخربة التي على قمته، ذلك أن الجزء الأعلى من قمة الجبل، التي يقوم عليها البرج والخرائب العُليا، مُضافة على الجبل وعلى أصله، فكأن بُناة الحصن رفعوه وعرّموا البناء للأعلى حتي صارت القمة مُرتفعة بشكل كبير عن ما حولها.
اقرأ/ي أيضًا: بيتا للمستوطنين: تحلموش
وكانت رُجوم الحجارة المتهدمة على قمة الجبل تُشكل تلالًا صغيرة بقيت بعد تهدم القلعة والبرج والأبنية العليا من الحصن. إذن فالقمة العُليا من الجبل مُعرّمة كما تعرم الأشياء في الإناء للأعلى، أو كما نُعرم كوم القش حين نجمعه فوق بعضه وَنُعليه، وهو شكلٌ شائع في القلاع الأثرية في بلادنا، ونشاهد ذلك في القلاع التي تظهر قممها من جبل العرمة، مثل قلاع قرقفه وأبو الريسه وقرن سرطبة التي تنتمي كلها لفترة تاريخية واحدة.3
وصف خربة العرمة
على الرغم من قيام بعثة أثرية بالتنقيب في خربة العرمة في ستينات القرن الماضي، إلا أن جزءًا كبيرًا من تاريخ الجبل ظل غامضًا ومجهولاً، ذلك أن غالبية المعالم التي تظهر اليوم تم حفرها من قبل لصوص الآثار، وقد سرقوا ما وجدوه وباعوه بثمن بخس.
ومع ذلك فإن النّصوص المكتوبة تُدلل بوضوح على أهمية هذه الخربة، ومن ذلك ما ورد في مجلة الوقائع الفلسطينية، حيث وصفت العرمة بأنها تحتوي: "على قمة مُحصنة وعليها برجٌ في الطرف الجنوبي، ومغرٌ وصهاريج منقورة في منحدر صخري وحجارة مزمولة، وشقف فخار". 4
وتعتبر أقدم إشارة تاريخية لجبل العرمة هي ما ورد في رسائل تل العمارنة (1334 ق.م - 1388ق.م)، كما يقول المؤرخ الفلسطيني إبراهيم الفني. 5
وبحكم علاقتي بالمكان وزياراتي المُتكرره له، وما كنت سجلته ووثقته عن الموقع، يُمكنني وصف الخربة وأهم المعالم التي كانت ظاهرة فيها بين الأعوام 2007 -2015. 6
تقوم خربة العرمة على جبل حصين مُشرف على ما حوله، وتأخذ الخربة مساحة كبيرة من الجبل، وهي مُحاطةٌ بسور أو جدار قديم متين البناء، تظهر أجزاء من أساساته في منتصف الجبل في المنطقة الشمالية الغربية، وفي أسفل الجبل في المنطقة الشرقية الجنوبية. وتمتاز أساسات السور بالمتانة والسماكة، حيثُ يزيد عرضها عن المتر وحجارتها كبيرة.
تأخذ خربة العرمة مساحة كبيرة من الجبل، وهي مُحاطةٌ بسور أو جدار قديم متين البناء
وإذا دخلت إلى القلعة من السفح الشمالي، يُمكنك مُشاهدة بقايا الجُدران والمداخل الأساسية والغرف الحجرية المُربعة الشكل، ثُم تكون أمامك المقابر المحفورة، وبجانبها الحجرات والغرف المنحوته في الصخر التي يمكنك التنقل بينها من خلال درج صخري من سبعة درجات محفور فوق غرفة حجرية. وفي هذه المنطقة الشمالية الغربية من الجبل تظهر بوضوح عشرات المعالم المتهدمة فوق بعضها البعض، مثل الواجهات المبنية من الحجارة المُشذبة والمطلية بطبقة من الملاط (القصارة)، وهي تشكل جُزءًا من واجهة أو جدار قديم، ونرى بشكل عشوائي فوهات الآبار المتنوعة، وكذا مداخل الغرف المتهدمة التي توحي بكثافة البناء في هذه المنطقة.
وكنت قد شاهدتُّ مجموعة من اللقى المُحطّمة في مدخل أحد الغرف الحجرية في هذه المنطقة، وكان من بينها: جاروشة قمح سوداء وفخار متنوع وزجاج ومدق حجري.
وحين تصل إلى السفح الأعلى من الجبل من الجهة الشمالية الغربية، تكون أمام الغرف والمغر الكبيرة والمعاصي والسراديب التي حُفر أكثرها داخل الأرض، ويُميز أحدها وجود أكثر من باب له من الأعلى، وهي أبواب تُشبه أبواب آبار الماء، وكان الأهالي يعتقدون توهمًا بأنها استخدمت كَـمَشنقة في العهد العثماني. كما يُمكنك مُشاهدة عدة قنوات لنقل الماء، وهي قنواتٌ مصقولةٌ ومبنيةٌ من الحجر وغالب أجزائها مطورٌ تحت الأرض وبين الأنقاض، الأمر الذي يُدلل على وجود شبكة مياه داخلية بين الآبار والصهاريج العملاقة في الخربة.
حين تصل إلى السفح الأعلى من الجبل من الجهة الشمالية الغربية، تكون أمام الغرف والمغر الكبيرة والمعاصي والسراديب التي حُفر أكثرها داخل الأرض
وهذه الصهاريج العملاقة المحفروة بالصخر بشكل بديع ومنتظم، ويتسع الواحد منها لنحو 1500 كوب من الماء تقريبًا، وهي خزاناتٌ شائعة التواجد في المنطقة، حيثُ نجد مثيلها داخل عقربا بالقرب من القلعة الرومانية (الحصن)، وكذا في جبل سرطبة.
وهي صهاريج تنتمي للفترة الرومانية، وتحديدًا لفترة حكم هيرودوس (73 قبل الميلاد- 4 قبل الميلاد)، ذلك أنه أعطى للمنطقة أهمية كبيرة بجعلها مقاطعةً مركزها عقربتا (عقربا)، ولأجل ذلك شيد فيها القلاع والحصون وآبار الماء والبرك الضخمة التي لا تزال قائمة في بلدة عقربا وخربة فصايل وخربة الدشة حتى اليوم. وكان واضحًا بأن هذه القلعة تحتاج إلى وفرة في الماء، الأمر الذي حُفرت لأجله هذه الصهاريج العملاقة، بالإضافة لعشرات الآبار في أطراف الجبل.
وفي أعلى قمة الجبل، حيث نجد الأطلال القديمة، كانت هناك سلسلة تلال صغيرة من الحجارة المُتهدمة والمتكومة فوق بعضها من جراء تهدم القلعة العُليا وأبراجها الضخمة. وهذه، بحسب الروايات الشفوية، كان يُمكن للمرء من على قمتها مُشاهدة السفن في عرض البحر الأبيض.
أما في الجهة الجنوبية من القلعة فإننا نُشاهد بوضوح بقايا الجدار الذي كان يُحيط بالقلعة، وهو جدارٌ من مُستويين لا يزال جزءٌ منه قائمًا حتى اليوم. وفي أعلى هذه الجهة يقعُ البرج الأهم في القلعة، والمبني من حجارة كبيرة، وهي حجارةٌ شبيهةٌ بحجارة قلعتي عقربا وسرطبة. وقاعدة البرج المُربعة لا تزال ظاهرة للعيان مع جزء من الجدار العلوي للقلعة.
غير أن ثقل القلعة الأثري ووجهتها المعمارية تقوم على سفحها الذي يُطل على واد البسطامي، وهو السفح الشرقي الشمالي. حيث تكون هذه الأبنية محمية لأنها مرتفعة عن سواها، ولأنها غير مكشوفة. وفي هذا السفح نشاهد تكدس الحجارة المُتهدمة فوق بعضها، ويظهر لنا بقايا الواجهات المبنية من حجارة منتظمة، ويزيد طول بعضها عن عشرة أمتار. وبعض تلك الواجهات يتراوح ارتفاعها بين المتر والثلاثة أمتار، وهي من واجهات وأروقة القلعة الداخلية التي يصعب تحديد طبيعتها بسبب الخراب والتهدم الذي طال الخربة. وكانت الحفريات غير القانونية لناهبي الآثار قد دلت على غرف وسراديب وأبواب وآبار ومعاصر مُهمة.
وفي طرف الخربة الأسفل كانت هناك حجارة عملاقة مبنية كمدخل لهذه القلعة، ومنها إلى الجنوب الشرقي كان هناك طريق مرصوف يسير باتجاهين، أحدهما نحو خربة المواسي وتواصل طريقها شرقًا إلى عقربا، والآخر يتجه شمال غرب باتجاه شكيم (نابلس)، وقد ذكر لي المؤرخ إبراهيم الفني بأن هذه الطريق تعود للعصر البرونزي المتوسط. 7
والجبل عُمومًا مليءٌ بالفُخار المُتكسر والمتنوع شكلًا وحجمًا ولونًا، والأكثر غرابة في موضوع الفخار أنه عُثر على مغارة كبيرة في خربة مواسي (1كم جنوب شرق العرمة) مليئة بأطنان من الفخار المُتكسر والمتنوع في شكله ولونه. كما عثر على كثير من العملات النقدية التي يعود أكثرها للفترة الرومانية، والفترة الإسلامية الأموية.
هذه كلها تُدلل على أهمية الخربة وقدمها، وعلاقتها المتينة مع الحضارات التي عمرت في فلسطين، الأمر الذي يستدعي اهتمامًا جديًا بها من قبل الجهات المختصة، خاصة في ظل النوايا الاستيطانية الواضحة مؤخرًا تجاه هذه المنطقة.
___________
1- موسوعة بلادنا فلسطين، مصطفى الدباغ، دار الهدى - كفر قرع ، جز 2 ص306
2- أنظر: لسان العرب، جمال الدين ابن منظور ، دار صادر - بيروت : الثالثة - 1414هـ.
3- للمزيد حول ذلك طالع: عقربا بين الماضي والحاضر، مصطفي عايد- بلدية عقربا 2005.
4- الوقائع الفلسطينية ص 1617
4- مقابلة خاصة: أ. ابراهيم الفني، مدير آثار نابلس سابقًا، وأحد أفراد طاقم التنقيب في الخربة في ستينات القرن الماضي، أجريت المقابلة في بيته في رام الله 22/3/2009.
5- مسح ميداني للباحث يعود للعام 2009، وفيه وصف تفصيلي للجبل وأهم المعالم المتواجدة فيه.
6- أ. ابراهيم الفني، مصدر سابق.
اقرأ/ي أيضًا: