يستذكر أهالي بلدة بيتا، ذاك اليوم رغم مضيّ 30 عامًا عليه، حين انقلبت رحلة المستوطنين الجبلية إلى مواجهات دامية، تحوّلت فيها البلدة الوادعة إلى ساحة حرب خلّفت شهداء وجرحى، ومبعدون وأسرى، وبيوتًا مهدّمة.
البلدة المنتفضة دومًا، لا يتوانى الاحتلال عن إغلاق شريانها الرئيس، ومداخلها الفرعية بحجّة تعرّض مستوطنيه للرشق بالحجارة والزجاجات الحارقة
وعن المرحلة التي سبقت هذه الحكاية يقول ربحي حمدان (57 عامًا): "أثناء الانتفاضة الأولى، كانت بيتا منطقة مواجهات ساخنة مع قوات الاحتلال على مدار الساعة، لدرجة أنّها كانت تعرف بين أوساط الفلسطينيين بالمنطقة المحررة التي يحظر على الاحتلال دخولها.
من أغاني الانتفاضة الشعبية الأولى عن بلدة بيتا:
"قرية بيتا غالية علينا أعطت للصهيوني دروس
قالت له لا تحلم بارضي ولا تفكر عليها تدوس
خطفوا الحرس مع السلاح وخلّو العدو كلو جراح"
ويقول حمدان إنّ بلدته كانت من أوّل المناطق التي طبّق فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق "إسحق رابين" سياسة تكسير العظام لمواجهة انتفاضة الحجارة، ففي نهاية شهر كانون الثاني/ يناير عام 1988، اقتحمت قوات كبيرة من جنود الاحتلال البلدة ليلًا واعتقلت 25 شابًا، كان حمدان من بينهم.
ويضيف حمدان: "بعدها تم تجميعنا في أحد السهول، ثم انهال الجنود علينا ضربًا بالحجارة وأعقاب البنادق فكسروا أيدينا وأرجلنا (...) كانت لحظات قاسية لدرجة ظننت فيها أنّ ساعة الموت قد اقتربت، بعدها فكّ جنود الاحتلال قيودنا وأطلقوا سراحنا، ثم صرنا نتكئ على بعضنا البعض ونجر أطرافنا المكسورة حتى وصلنا إلى منازلنا"، يضيف حمدان.
اقرأ/ي أيضًا: سلواد.. البلدة القلعة
شكّلت هذه الحادثة نقطة مفصلية عند أهالي البلدة، فبدل ردعهم وتراجعهم، أقسموا على الثأر من الاحتلال، وانتظروا اللحظة المناسبة التي "جاءت على قدميها" بعد ثلاثة أشهر فقط.
ففي يوم الأربعاء 6 نيسان/ أبريل 1988 وصل عدد من المستوطنين كانوا في رحلة جبلية، إلى منطقة بين "عين عوليم" وجبل "أبو الشافط" شرق بلدة بيتا. توقفت المجموعة قليلًا للاستراحة قبل مواصلة سيرها صوب تلال البلدة.
صبيح أحمد حمايل (56 عامًا)، كان واحدًا من المزارعين الذي لمحوا المستوطنين بينما كان يتواجد في أرضه، فيقول لـ "الترا فلسطين": كانت المجموعة مكوّنة من 16 مستوطِنًا ومستوطِنة، بينهم حارسان يحملان بنادق M16.
ويتابع: بعدها وصل الخبر لأهالي البلدة، بينما أخذت سماعات المساجد تحذّر المواطنين من اقتحام وشيك للمستوطنين، وخلال دقائق كان مئات الشبّان يحيطون بمجموعة المستوطنين. ويكمل: "كان المستوطنون في حالة خوف شديد، ثم حاول أحد أبناء البلدة التفاوض معهم لأنّه يتقن اللغة العبرية، وما إن تقدّم صوبهم حتى عاجله أحد المستوطنين برصاصة استقرّت في صدره، بعدها بدأ الشبان إلقاء الحجارة على المستوطنين، وواصل الحارسان إطلاق النار، فاستشهد موسى صالح بني شمسة وحاتم فايز أسعد.
ويواصل حمايل رواية الحادثة التي شكّلت حدثًا مفصليًا، في تاريخ البلدة: هجم الأهالي على المستوطنين بالعصي والحجارة، فأصابوهم برضوض وجروح، وفي غضون ذلك انفلتت رصاصة من سلاح أحد المستوطنين فأصاب مستوطنة كانت بجواره، فارقت الحياة بعد ساعات.
اقرأ/ي أيضًا: دير أبو مشعل.. القرية التي لا تهدأ
ويضيف: "في هذه الأثناء استسلم المستوطنون، ولكنّهم أصرّوا على بقاء أسلحتهم بحوزة الحراس، ثم جرى اقتيادهم صوب مركز البلدة بعد فصل الإناث عنهم (...) عاملنا المستوطنات الخمس بطريقة إنسانية، وجرى نقلهن لمنازل المواطنين، وهناك تم تقديم الطعام والشراب لهن".
ويشير حمايل إلى أنّ شقيقة الشهيد موسى وصلت بعد ذلك إلى مكان احتجاز المستوطنين، وألقت حجرًا كبيرًا صوب الحارس الذي قتل شقيقها، فأصابته بجراح خطيرة حوّلته إلى مقعد، ثم أعلن مقتله لاحقًا جرّاء الإصابة.
ويلفت إلى أنّ الحارس القتيل كان معروفًا بتطرّفه وغطرسته وحقده الشديد على العرب، ومسؤوليته السابقة عن قتل شابين في مخيم عسكر شرق نابلس.
وبعد انتهاء المواجهة بين المستوطنين المسلحين وأهالي بيتا العزل، بدأت قوات كبيرة من جنود الاحتلال، باجتياح البلدة من جميع محاورها وأغلقت مداخلها الرئيسة بالسواتر الترابية، بينما نفذت المروحيات حملة تمشيط بحثًا عن الشبان الذين هربوا لرؤوس الجبال والكهوف، في حين حوّل الجيش مدرسة البلدة الثانوية لمركز تحقيق واستجواب.
اقرأ/ي أيضًا: 3 فدائيين من "زمن نابلس الجميل"
ويتابع ربحي حمدان: "في اليوم التالي مُنع التجول على القرية وقتل جنود الاحتلال الشاب الثالث عصام محمد داود، كما طالت الاعتقالات أكثر من 300 من أبناء البلدة، وهدمت جرافات الاحتلال 13 منزلاً، واقتلعت مئات الأشجار، كما طالت حملة الانتقام إبعاد 6 شبان إلى جنوب لبنان، عاد أربعة منهم، آخرهم قبل أشهر فقط، فيما لا يزال اثنان خارج البلاد ويرفض الاحتلال عودتهم".
ويشدد حمدان على أن الحملة الإسرائيلية الشرسة استمرت من 6 إلى 10 نيسان/ ابريل عام 1988، لافتاً إلى أن البلدة تحولت خلالها لمسرح عمليات عنيفة، لا يسمع فيها إلا صوت الرصاص والمروحيات.
وخلال هبة القدس الأخيرة عادت "بيتا" لواجهة الأحداث مجددًا، كواحدة من أكثر البؤر سخونة شمال الضفة الغربية (حسب التصنيف الإسرائيلي)، حيث تشهد البلدة مواجهات عنيفة شبه يومية بين الشبان وقوات الاحتلال التي عمدت أكثر من مرة إلى إغلاق مداخلها الرئيسة والفرعية بالسواتر الترابية والمكعبات الإسمنتية.
من المعروف أن بلدة بيتا لا تحيط بها أي مستوطنات إسرائيلية، وحديثًا يحاول المستوطنون إقامة بؤرة على أراضي البلدة من الجهة الجنوبية
واليوم يعود المستوطنون من جديد، إلى مرتفعات "بيتا" مشحونين بذكريات الماضي، فنصبوا قبل أيام "كرفانات" فوق منطقة "جبل صبيح"، وسط تخوفات من أن تكون هذه المنازل المتنقلة نواة لأول بؤرة استيطانية فوق أراضي البلدة.
فهل ينجح أهالي "بيتا" بصد أصحاب القبعات الصغيرة والجدائل الطويلة كما فعلوا ذلك قبل ثلاثين عامًا؟
اقرأ/ي أيضًا:
عملية بيت ليد.. الأقسى في تاريخ جيش "إسرائيل"