تُعرف التعبدية بأنها نوعٌ من أنواع الرهبنة، وفيها يُخصص المؤمن المسيحي جُل وقته للتعبد والتوحد مع الله، ولا يخرج الرهبان أو الراهبات التعبديين من باب الدير، إلا في الحالات القصوى جدًا، ووفق تعاليم وتوجيهات رئيسهم في الدير أو المسؤول فيه. الترا فلسطين زار دير الكرمل في مدينة بيت لحم، والتقى راهبات كرمليات هناك؛ ليحكين عن يومياتهن وحياتهن داخل أسواره.
[[{"fid":"71393","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":350,"width":467,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]
التقينا راهبة مصرية، وأخرى بولندية، جلستا خلف قضبانٍ في غرفة استقبال الضيوف بالطابق الأول من الدير، وقد فضلتا عدم ذكر اسميهما. تقول الراهبة المصرية، إن الراهبات يُصلين لله في الخفاء بعيدًا عن أعين الناس وعلمهم، ويتّبعن مبادئ الصمت والخلوة والقراءة الربّية والروحية، "فيفرح الله بذلك وينزل فرحه وسلامه في قلوب الراهبات، ويستطعن منح ذلك للآخرين" كما ذكرت.
لا تخرج الراهبات من دير الكرمل إلا للضرورة القصوى، ولكنهن يعملن داخل الدير في التطريز والبستنة
لكنني شاهدتُ بعض الراهبات في مُحيط دير الكرمليات؟ تُجيب الراهبة بلهجتها المصرية المعروفة، وتُزامن الإجابات بابتسامةٍ وهدوء بعد أن تتحاور بالفرنسية - وهي اللغة الأساسية في تواصل الراهبات - مع زميلتها البولندية البشوشة، "فين؟! إحنا معندناش راهبات بخرجوا برا الدير. دول راهبات الرسولية بيجوا زيارات".
اقرأ/ي أيضًا: الزواج المسيحي: سر الكنيسة وإكليل الانتصار
تقول إنه وفق مذهب الرسولية، تسمع الراهبات نداء الله ليترجمنه بأفعالٍ ملموسةٍ على أرض الواقع، لا تنحصر بالتعبد أو البقاء في الدير مثل؛ العمل في التمريض لمساعدة المكلومين، أو التدريس، وغيرها من الأعمال الخيرية.
غرفة الاستقبال صغيرة، بلاطها قديم مَلِسٌ، يوجد فيها عدد محدود من الكراسي، وعلى الجدار صورة القديسة مريم البواردي التي بنت هذا الدير قبل سنواتٍ طويلة. ومريم البواردي، وفق ما تحكي لنا الراهبتان، قديسة ولدت عام 1846 في قرية عبلين في الجليل، التي تقع في منتصف الطريق بين الناصرة وحيفا، لعائلة تنتمي إلى كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك.
ولدت مريم لأبوين فقدا أولادهما الـ12 في سن مبكرة، وكانت ولادتها بعد أن حج الوالدان إلى بيت لحم للصلاة في مغارة الميلاد، وطلب النعمة بأن يرزقهما الرب بنتًا، وقد كان ذلك. بعد ولادتها، رُزق والداها بأخيها بولس، ثم بعد وفاتها تبنّاها عم ميسور الحال، في حين تبنّت عمتها الأخ بولس، فسافرت مريم إلى الإسكندرية، ولما أراد تزويجها في سن الـ12 عامًا، رفضت لأنها نذرت نفسها للرب، وتنقلت بعدها بين عدة أمكنة وأديرة في العالم مع الراهبات كفرنسا والهند وغيرها.
[[{"fid":"71394","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":350,"width":467,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]
[[{"fid":"71395","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":350,"width":467,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]
في عام 1876 أسست القديسة مريم دير الكرمل في بيت لحم، ثم أقامت بعد ذلك بعامين مثله في الناصرة. توفيت القديسة بعد أن سقطت عن الدرج وهي تحضر الماء لعمال البناء في كرمل بيت لحم، فانكسرت ذراعها وانتشرت الغرغرينا في جسدها، لتفارق الحياة في السادس والعشرين من العام 1878، عن عمرٍ قارب 32 عامًا.
القديسة مريم البواردي، ابنة الجليل، أسّست دير الكرمل في بيت لحم، ثم توفيت بعد ذلك بعامين قبل أن تكمل 32 عامًا
تبدأ الراهبات يومهن بحلول الساعة السادسة صباحًا؛ أو قبل ذلك بقليل، ويفتتحن يومهن بأداء صلاة التأمل "صلاة باكر"، ثم تناول وجبة الإفطار بصمت، ثم يؤدين صلاة السحر عند السابعة، يليها القداس الإلهي "الإفخارستيا"، وصلاة الساعة الثالثة، ومع منتصف النهار أو عند الساعة الثانية عشرة ظهرًا، تؤدي الراهبات صلاة نصف النهار يعقبها تناول وجبة الغداء.
اقرأ/ي أيضًا: بربارة.. أسطورة القداسة
لا تُمنع الراهبات عن أي نوع من الطعام، لكنهن لا يطلبن صنفًا منه ولا يشتهين، بل يرضين بما يقدمه الآخرون لهن. تقول الراهبة المصرية: "نأكل بصمت، ندخل غرفة الطعام وهي جزء من مطبخ الدير بصمت، ونقوم من المكان بذات الطريقة".
كيف يجري توزيع الأدوار بين الراهبات؟ تبيّن المتحدثة أن كل راهبة تتولى الطبخ مرة، والراهبات هنا من 11 جنسية مختلفة، وكل راهبة تعد طعامًا من بلدها، ولا يحدث أن تعترض أي راهبة على طعام الأخرى وإن لم تعتد عليه من قبل.
وتضيف، "حتى في الأعياد يُقدم لنا الناس من خارج الدير الطعام، ونشكر الرب مهما كان صنفه ونصلي لمن قدمه. لا ننظر لنوع الطعام، بل للمحبة من ورائه، ونصلي لمن لا يجدونه". في وقت الأكل تستمع الراهبات للآيات المقدسة، لكن تناول وجبة الإفطار يتم بشكل فردي، فيما يجتمعن على المائدة ذاتها في وجبتي الغداء والعشاء، وتتولى إحداهن مهمة الترتيب والتنظيف.
بعد الغداء تجتمع الراهبات ضمن اللقاء الأخوي، فيحكين لبعضهن ما مررن به خلال اليوم داخل أروقة الدير، ويستقبلن الزوار حتى الساعة الخامسة مساءً. في هذا الوقت تؤدي الراهبات صلاة الغروب، ثم بعد نصف ساعة صلاة التأمل، ثم عند السادسة والنصف فرض القراءات؛ إذ تقرأ الراهبات من الإنجيل وتتلو كل منهن التسابيح والتراتيل الدينية، يلي ذلك العشاء، فاللقاء الأخوي عند الساعة السابعة، ثم يحين موعد النوم عند الساعة الثامنة والنصف.
لكن هل تنصرف الراهبات إلى العبادة ولا شيء سوى ذلك؟ تُجيبنا الراهبتان بأنهن يقمن بأعمال عديدة إلى جانب العبادة، ومن ذلك البستنة والعناية بحديقة الدير، والتطريز، وصنع البُرشان، وبعض الأشغال اليدوية الأُخرى، واستقبال الزائرين أيضًا. تذكر الراهبة البولندية التي أمضت 18 سنة من عمرها في دير الكرمل التلحمي، أن بعض الزوار يأتون للصلاة في كنيسة الدير، ورحاب القديسة البواردي، وبعضهم يأتي طلبًا للشفاء "الذي يهبه الله على يد القديسة" بحسب قولها.
[[{"fid":"71396","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"4":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":350,"width":467,"class":"media-element file-default","data-delta":"4"}}]]
[[{"fid":"71398","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"6":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":309,"width":550,"class":"media-element file-default","data-delta":"6"}}]]
وبما أن الرهبنة التعبدية تقضي بأن تختلي الراهبة بربها في الدير دون خروج إلا في حال الضرورة التي لا بديل عنها، فإن الراهبات ينفصلن عن علاقتهن الحميمة بعوائلهن، لكن يحق للأهل زيارتهن في الدير والاطمئنان عليهن. تقول الراهبة المصرية إنها لم ترى أهلها منذ عام ونصف، أما البولندية فلم تلتقيهم منذ سبعة أعوام، لكن الراهبات بالعموم يتواصلن مع ذويهن هاتفيًا، ويحدث وقت العيد أن يأتي بعض أقاربهن للمعايدة.
يُسمح لعوائل الراهبات بزيارة بناتهن في دير الكرمل، لكن بعضهن لا يلتقين عوائلهن لسنوات، ويُسمح لهن بالتواصل معهم هاتفيًا
وإن كانت لقاءات الراهبات بأهلهن تنقطع سنوات في بعض الحالات، وخروجهن من الدير مقيّد بشروط، فإن هذا لا يعني أنهن ينعزلن عن كل ما يدور في العالم. فمتابعة الأخبار ليست ممنوعة، والراهبات "يصلين للمكلومين والمُتعبين والمنكوبين جميعًا على اختلاف دياناتهم في أرجاء الأرض، ويشعرن بالأسف والحزن العميق عند استهداف الكنائس والمسيحيين"، لكن أغلب الوقت مخصص للعبادة.
اقرأ/ي أيضًا: مارسابا.. قصة دير محرم على النساء
فريال قراعة، "ابنة البلد" كما عرّفت نفسها لنا، فقد ولدت وترعرت في بيت لحم، بدأت كتاجرة لكنها فضلت حياة الدير، ودير الكرمل على وجه الخصوص، إذ "شعرت بنداء روحي داخلها فاستجابت دون تردد" وفق قولها.
وفريال هي الراهبة الوحيدة التي تخرج من الدير لتمثله حول العالم، فترافق رُفات القديسة مريم البواردي، علمًا أن سرير القديسة ومُقتنياتها محفوظة في غرفة زجاجية حتى يومنا هذا في الدير. تقول: "سافرت مع رفاتها الموضوعة في صندوق من الصدف إلى فرنسا، والأردن، ولبنان، والمكسيك. يصلي المُستقبلون معها، والأعداد التي تأتي كبيرة، أقلها في أصغر الكنائس خارجيًا ثلاثة آلاف شخص، وفي الفترة المُقبلة سنتجه بالصندوق إلى الولايات المتحدة وتشيلي".
وتبيّن فريال أن الكنيسة كانت تُخصص للقديسة مريم البواردي كاتبة لُتسجل كل أقوالها، وقد جُمعت أقوالها في كتاب بعنوان "خواطر وأقوال القديسة مريم"، ومنها قولها: "النفس التي رجاؤها الله تتحول برحمته إلى ماسةٍ بهية". وتشير إلى أن باحثين وفلاسفة ورجال دين في أوروبا يدرسون أفكار القديسة ويتناولون حياتها.
أقوال القديسة مريم البواردي، التي بنت دير الكرمل، جُمعت في كتاب، وباحثون وفلاسفة في أوروبا يدرسون أفكارها وحياتها
أمضت فريال في الدير 12 عامًا، ستة منها كمتطوعة وستة أُخرى كراهبة، تحكي مراحل النذور الثلاثة التي تمر بها الراهبات منذ تطأ أقدامهن الدير. تبدأ الرحلة بأن تقضي ثلاثة شهور في الطابق الأول، تصلي الفروض وتُقدَّمُ لها كتب عن روحانية الكرمل.
اقرأ/ي أيضًا: دير كريزمان.. البداية من "نبيذ الصلاة"
في السنة الأول تبقى الراهبة بملابسها التي جاءت بها، ثم في السنة الثانية تُمنح لباس الراهبات الكرمليات، أو ما يُعرف بـ"ثوب العذراء"، ثم تدرس "العمق اللاهوتي". تنذر الراهبة في الأول أن تعيش للفقر، والثاني العفة (عدم الزواج)، والثالث طاعة الرئيس- رئيس الدير - وتُجدد هذه النذور كل عام. وتنوي الراهبة "التلحمية" أن تنذر نذر طول العمر، وهو النذر النهائي، وتقطع الراهبة به على نفسها عهدًا بتكريس حياتها في التعبد داخل أسوار الدير للأبد.
[[{"fid":"71397","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"7":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":350,"width":467,"class":"media-element file-default","data-delta":"7"}}]]
كان السؤال هُنا مُلحًا، هل يحصل أن تتراجع راهبة عن الرهبنة بقية حياتها؟ ولو فعلت، هل تقع عليها عقوبة من رئيس أو رئيسة الدير؟ أجابت فريال أن باستطاعة الراهبة التراجع عن قرار الرهبنة، شرط تقديم ورقة بذلك تُرفع إلى الفاتيكان، بعدها يمكنها الانسحاب وممارسة حياتها كما الجميع. تقول إن تجربتها أظهرت أن "معظم اللواتي فعلنها شعرن بالندم".
تنذر الراهبة تكريس حياتها في التعبد داخل أسوار الدير للأبد، لكن يُمكنها التراجع عن ذلك بتقديم ورقة تُرفع إلى الفاتيكان
هل يحمل عيد الفصح أجواء خاصة للراهبات؟ تبيّن فريال أنهن ابتعدن عن مباهج الدنيا في سبيل الله، "ربما المختلف في عيدنا أننا نخرج قليلاً عن أجواء الصمت فنحكي مع بعضنا البعض أكثر، لكن عيدنا يتحقق في قمة اتكالنا وتسليمنا لربنا" حسب تعبيرها.
تستخدم فريال وسائل التواصل الاجتماعي لغاية الحفاظ على علاقات الدير بالعالم والمؤسسات المسيحية في المدينة وخارجها، وتعمل مع إحدى المشرفات على تحديث الموقع الإلكتروني الخاص بدير الكرمل ونشاطاته وأقسامه.
يتكون دير الكرمل من طابقين، يشمل الأول المطبخ، وغرفة الضيوف، ومكاتب للراهبات، ومستوصفًا صغيرًا، وقاعة كبيرة للاجتماعات، وحديقة صغيرة، بالإضافة إلى كنيسة داخلية، ومكانًا خاصًا بتعبد الراهبات فقط، في حين يُخصص الطابق العلوي لغرف النوم وبعض المرافق.
ويقع دير الكرمل على بعد أمتارٍ قليلة من منطقة السينما، وهي نقطة الحياة والتسوق في مدينة بيت لحم، أسواره قديمة ملساء تلفه، ويؤدي إليه طريق جميل مُعبد ومحروسٌ من إحدى الجوانب بأشجار عديدة كاللوز، وبجانبه دير قلب يسوع، وهو دير مُخصص للرهبان، وله حديقة غنية بأشجار الحمضيات وفواكه أخرى، وأشجار الزيتون، والورود الجميلة في الأرض، أو في قلب فُخاريات تُسر قلوب الناظرين.
اقرأ/ي أيضًا:
ماذا عن الكنائس وعيد الميلاد في نابلس؟