يبدو الادّعاء بأن المجتمع الإسرائيلي مجتمع مجنّد ومتجانس له صورة واحدة، غير جائز سوى في الشعارات السياسية، سواء عندما يتباهى الخطاب الإسرائيلي السياسي بهوية المجتمع الواحدة، أو عندما يساجله الفلسطينيون، ما عدا ذلك، نجد تباينات شديدة وشروخًا تستمر بالظهور مع الوقت في مجتمع قائم أصلاً على مجموعة هائلة من الهويات والخلفيات الاجتماعية المنفصلة، والمتناقضة أحيانًا. أمّا بالنسبة للمجتمع العلمي الإسرائيلي، فنجد أيضًا خلافات وصراعات كثيرة تتخلق بين البحاثة الإسرائيليين والمؤسسة الرسمية أو المؤسسة الدينية.
المضايقات التي يتعرض لها علماء الآثار في إسرائيل، تعطي صورة واضحة عن الصراعات بين البحّاثة والمؤسسة الرسمية أو الدينية.
والمضايقات التي يتعرض لها علماء الآثار والتنقيب والأنثروبولوجيا التاريخية في إسرائيل، تعطي صورة واضحة عن هذه الصراعات، إذ تصطدم معظم رغباتهم بإجراء أبحاث تنقيب بالمؤسسة الدينية وأحاكمها الصارمة، التي تحرِّم التعامل مع كل المتعلقات بـ"الرفات البشرية" (Human Remains).
بعد حادثة أثارت جدلًا في الإعلام الإسرائيلي، اتضحت عودة هذا الصراع بقوة إلى المجتمع. إذ كشف الإعلام الإسرائيلي قبل أيام عن اكتشاف أركيلوجي مهم، جاء ضمن منجزات فريق أمريكي ينقّب في عسقلان من عامين. حيث استطاع هذا الفريق العثور على مئتين من الهياكل العظمية قرب حديقة عسقلان الوطنية، يمكن من خلالها -حسب التقارير- تقديم معلومات تاريخية مهمة عن الحضارة الفلسطينية القديمة (Philistine civilization) حسب الوصف التوراتي.
اقرأ/ي أيضًا: علم الجينات يوجه الضربة القاضية لإسرائيل
لكن كشْف الإعلام عن نتائج تنقيب الطاقم الأمريكي الذي عمل لعامين سرًا، (لأن علماء الآثار في إسرائيل يدركون خطورة وحساسية الموقف) نزع الغطاء عن نقاش حاد بين المتدينين اليهود والمؤسسة البحثية في هذا المجال، وعن مآزق غريبة في القانون الإسرائيلي. فحسب اللوائح القانونية، فإن علماء الآثار في حال عثورهم على عظام بشرية، عليهم مراجعة المؤسسة الدينية المختصة فورًا. والتي تقرر بدورها ما هو الإجراء المناسب، ومكان الدفن، بحيث لا يمكن التعامل مع العظام البشرية كمادة للدراسة.
ما حدث يعيد أسئلة كثيرة عن القانون الإسرائيلي الذي يعد مساحة خصبة تظهر فيها العلاقة الملتبسة بين الدين والدولة في إسرائيل. فكيف يمكن لدولة تعرِّف نفسها كدولة علمانية، أن تسمح بإعاقة البحث العلمي بحجج دينية، وتعطي رجال الدين صلاحيات تفوق صلاحيات الباحثين في مجالهم. إضافة إلى هذا النقاش، فإن العلاقة المترددة مع الحريديم (اليهود المتشددين) تبدو أكثر وضوحًا، إذ تغلب مصالح الأحزاب وخوفها من خسارة تأييد نسبة كبيرة من المجتمع الإسرائيلي التي يقودها رجال دين، وتنهزم علمانية الدولة تدريجيًا أمام المدّ الحريدي الذي يتم التخويف منه بتردد أيضًا.
وهذا الصراع ليس جديدًا، إذ بدأ قبل تأسيس الدولة في إسرائيل، من بداية الحفريات التوراتية في فلسطين. وزاد هذا الصراع مع تأسس الدولة على أنقاض الفلسطينيين، ولعلّ أعمال الشغب التي اندلعت ضد علماء الآثار في القدس، في السبعينيات دليل على ذلك، ومنذ ذلك الوقت لا يمر عام دون احتكاك بين مجموعات دينية متطرفة مثل مجموعة "أترا كديشا"، وبين علماء الآثار، ليس في القدس فقط.
اقرأ/ي أيضًا: شلومو ساند وديناصور الشعب اليهودي
في عام 2009، خضعت سلطة الآثار لتهديدات المجموعات المتطرفة، المناهضة للتنقيب في القبور والعظام، أثناء افتتاح مبنى طوارئ جديد في المركز الطبي في عسقلان. وفي عام 2012 نتيجة بناء حي بيت شيمش، وفي حالات كثيرة تم التهديد من أجل توقيف البناء بحجج وجود عظام بشرية أو رفض نقلها أو دراستها.
عمومًا، وإضافة إلى مسؤولية الدولة عن تعطيل البحث العلمي كما يقول علماء الآثار، من خلال فرض قوانين لا تليق بدولة علمانية، فإن خبراء يقولون إن خروج المجموعات الدينية عن سيطرة الدولة، ذنب الدولة نفسها، فقد كانت حريصة دائمًا على استخدام المؤسسة الدينية من أجل السيطرة على البحث في مجال الآثار ونتائجه، لما لهذه النتائج من حساسية عالية، وارتباط بالرواية الصهيونية عن التاريخ القديم، لذلك فإن نتائج هذا التنقيب (الذي تعوّل الرواية الإسرائيلية عليه كثيرًا) تكون دائمًا على تواصل مع الرواية الرسمية، وفرصة وجود نتائج نقدية ضئيلة نتيجة هذا التحكم. الأهم أن مثل هذه الأحداث تجعل هناك تشكيكًا دائمًا بجدية المؤسسة العلمانية في إسرائيل، المهددة دائمًا بقوانين وممارسات شبيهة.
اقرأ/ي أيضًا: