"عبثًا يستعجل الإنسان حوادث الحياة. إذا نضجت الثمرة سقطت من تلقاء نفسها. والثمرة التي لم تنضج كالثورة التي تأتي قبل يومها. تلك يأكلها الإنسان فجة فينصاب بمرض وهذه تموت في مهدها. فلا تسأل لماذا لم تقع الثورة قبل سنين، ولا تقل ليتها وقعت قبل اليوم".
هذه الروح التي تنبعث من حوادث صغيرة، أو الروح المنبعثة من حوادث كبرى ويظن أن تلاشت بانتهاء مفاعيل الحدث المباشرة، هل يمكن أن تتلاشى!
هذه المقدّمة لم تكتب إثر الثورات العربية التي ما زلنا نعيش في ظلالها. ولم تكتب تعليقًا على انتفاضات أهل فلسطين الأولى والثانية، أو انطلاقة ثورتهم المعاصرة، وإنما كتبت إبان ثورتهم الكبرى عام 1936- 1939. فمع انتهاء الموجة الأولى من الثورة تلبية لنداء الملوك والأمراء العرب في تشرين الثاني/ نوفمبر 1936. كتب مجهول نصًا مميزًا في وصف ما حدث مستشرفًا الموجة التالية للثورة. باحثًا في مقدمات الثورة وأثارها. فأضاف على ما سبق:
"قامت فلسطين بثورات عديدة قبل اليوم، ولكنّها لم تكن ناضجة، فجاءت قبل وقتها ولم تثمر ثمرها المطلوب. لم تكن التربة مستعدة في ذلك الوقت. وعبثًا حاول الناس أن يحملوا الشعب على العمل. ويكفي أن يذكر على سبيل المثال ما وقع أثناء المظاهرات التي وقعت سنة 1933، وكيف كان الجنود يطلقون النار على الناس، وكيف كان الناس يسقطون قتلى، والأمة في ذلك الوقت ساكنة لم يجرؤ أحد أن يقابل الجند بضربة عصا. ذلك مثال على ما نقدمه من أن الثورة متى نضجت اشتعلت بنفسها".
إذًا فحدث الثورة آت حين تحين لحظته، هذا خلاصة ما دُوِّن، لكن في المرحلة السابقة للثورة الكبرى، ما أثر حوادث هذه المرحلة "العتبة" على الثورة الكبرى!
"لسنا في هذا المقام ننسى ما كان للثورات السابقة في فلسطين من الأثر على هذه الثورة، كانت هي البذور الأولى التي زرعت في التربة، وكانت التجارب التي علمت الناس كيف يفعلون فلما حدثت الثورة الأخيرة كانت هذه التجارب خير معلم للناس".
"التجربة" لا يمكن أن تأتى إلا بالحركة والفعل، وتراكم الخبرات والتجارب في حوادث صغيرة، أو انتفاضات بينية، سيكون حدثًا فارقًا حال اندلاع الثورة الكبرى، هذا ما قرأه الكاتب. وهذا ما يمكن أن يُقرأ في الخبرة القتالية الفلسطينية في حرب 1947 – 1949 إذ كانت ثورة 1936- 1939 خزّان السلاح والخبرة العسكرية الأبرز لأهل فلسطين، وستكون الانتفاضة الأولى والفعل العسكري المصاحب لها، والخبرة القتالية المكتسبة من القتال في جبهات الثورة الفلسطينية المختلفة في الشتات خزان السلاح والخبرة العسكرية الأبرز أيضًا لأهل فلسطين في انتفاضة سلاحهم عام 2000.
لكن هل يقتصر تأثير هذه الحوادث، أو الانتفاضات البينية كما شهدت فلسطين خلال العقد الأخير، على التأسيس لـ "التجربة" وتراكم "الخبرة". أم أنّ لهذه الحوادث أثر متجاوز قد يكون صاحب تغيير جذري في مسيرة التاريخ!
سبق اندلاع الثورة العربية الكبرى عام 1936، استشهاد الشيخ عز الدين القسام (1882- 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1935) وصحبه في أحراش يعبد، فكيف قرأ الكاتب المجهول هذا الحدث وتأثيره في الثورة الكبرى، عن استشهاد القسام وصحبه كتب:
"ونحن الذين نسجّل حوادث الزمان لا يجوز لنا أن نغفل ما كان لثورة القسام من أثر كبير في هذه الثورة. زرع القسام بزرة في البلاد لم يكن أحد يعلم أنها ستنمو بمثل هذه السرعة، ومع ذلك نمت بسرعة عجيبة. وقد كان لتلامذة القسام يد كبيرة في الثورة، وهم الذين غذوها بدمائهم. تصور رجلاَ من تلامذة القسام كان إذا رجع من معركة سالمَا يجلس يبكي كالنساء، فإذا سأل لماذا نبكي يجيب أبكي لأني لم أقتل بهذه المعركة لألتحق بشيخي القسام".
إذًا فالحوادث والانتفاضات البينية قد لا يقتصر تأثيرها على تراكم "التجربة"، وتجويد الفعل العسكري المقاوم ضد المستعمر الأجنبي، وإنما كما عبر الكاتب بـ "الروح" الجديدة التي تبثها في صفوف الأمة. فاستشهاد القسام وصحبه كان مصدرًا لروح جديدة وصفها الكاتب فقال:
"مثل هذه الروح الجديدة لم يكن للبلاد عهد بها قبل قيام القسام واستشهاده بالصورة التي يعرفها القارئ. وليتصور القارئ رجلًا آخر من تلامذته يزحف على يديه ورجليه مختبأ هنا وهناك ليفتك بسواق إحدى الدبابات، حتى إذا اقترب من الدبابة ورآه السائق ويعلم أنه لا بد من موته يهجم على الدبابة بالحجارة الكبيرة غير مبال بالرصاص الساقط عليه من كل جانب فيحميه الله وينقذه إخوانه الذين شاهدوه في هذا الموقف الصعب ولا يرجع حتى يكون قد فتك بالسائق".
هذه الروح التي تنبعث من حوادث صغيرة، أو من تجارب قد يظن حال تقييمها لحظيًا أنها تجارب "فاشلة"، كتجربة الشهيد القسام وصحبه، أو الروح المنبعثة من حوادث كبرى ويظن أن تلاشت بانتهاء مفاعيل الحدث المباشرة، هل يمكن أن تتلاشى!
"وهل هنا قوة تستطيع أن تقتل مثل هذه الروح؟ هل هناك قوة تستطيع أن تلاشي تلامذة القسام من البلاد؟ هي بذرة نمت في كل الأوساط العربية وتلامذة القسام يتعهدونها لكي لا تموت".
ختامًا، بتجاوز لحظة الكاتب المجهول، وبالنظر في فعل ثورة 1936- 1939 وروحها يمكن ملاحظة حضور هذه الروح الجلي في فكر أهل فلسطين السياسي بسيادة تيار السلاح والفعل العسكري لمواجهة المستعمر الأجنبي، والمستوطن الصهيوني، وحضورها أيضًا في حرب أهل فلسطين التالية. وامتداد أثر هذه الروح وتوارثها في القتال الفلسطيني في العقود التالية. وبتجاوز لحظة "انتفاضة السلاح"، يمكن ملاحظة أثر روحها في الفكر السياسي -خصوصًا- الفلسطيني بوأد آمال التسوية، وخيار المفاوضات، وقبر مساعي التطبيع، وإعادة الاعتبار للبندقية وفعلها. ويمكن أيضًا ملاحظة أثرها في الفعل العسكري الفلسطيني في مواقع مختلفة، وتجليها في اللحظة الراهنة في "غزة".
اقرأ/ي أيضًا:
رام الله: غزلٌ قديم في ثورتها!