خلال المدى الطويل منذ بدء الاحتلال البريطاني لبعض فلسطين أواخر العام 1917، ولغاية اليوم، يلحظ أن مناطق فلسطين المختلفة شكلت في لحظةٍ من لحظات هذا المدى حاضنة مركزية للفعل المقاوم ضد المشاريع الاستعمارية، فتعرف هذه اللحظة بالبقعة الجغرافية الحاضنة.
خلال حرب فلسطين المؤسسة، أي حرب 1947-1949 توزعت المعارك على معظم مناطق فلسطين، وفي فلسطين الوسطى كانت ذروة المعارك في منطقة القدس وجوارها، للأهمية الاستراتيجية والرمزية للمكان، وكذلك لنجاح أهل فلسطين في الإثخان بعدوهم في المنطقة خلال حرب المواصلات أولاً، وثانيًا بعد نجاحهم في قطع الطريق الرئيسية الواصلة بين مركز التجمع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين وبين أماكن تواجدهم في القدس، أو ما سيعرف لاحقًا بالقدس الغربية، وفشل الحملات الصهيونية المركزية المتتالية للسيطرة على الطريق، وثالثًا بعد تحرير البلدة القديمة وتطهيرها بالكامل من أثر الوجود الصهيوني.
اتخذ عبد القادر الحسيني من بيرزيت مقرًا للقيادة العامة لقواته، وبعد استشهاده تحول مقر القيادة فيها إلى مقر قيادة لبقية قوات الجهاد المقدس
أضفت هذه المعارك أهمية رمزية استثنائية على منطقة القدس، وانعكست كذلك في حضور مقاتيلها الكبير في الرواية التاريخية الفلسطينية، مقابل حضور باهت لمعظم بقية فلسطين الوسطى، مع استثناءات محدودة فرضتها بعض المعارك العسكرية. خلال أسابيع الاشتباك الأولى اتخذ الشهيد عبد القادر الحسيني من بلدة بيرزيت مقرًا للقيادة العامة لقواته، التي ستعرف بقوات الجهاد المقدس، لكن إثر استشهاده انتقلت القيادة المركزية إلى داخل القدس، بعد تولي الشهيد خالد الحسيني للقيادة خلفًا لعبد القادر الحسيني. وإثر هذه اللحظة، تحول مقر القيادة في بيرزيت فعليًا، إلى مقر قيادة محلي لبقية قوات الجهاد المقدس، خصوصًا القوات النشطة في منطقة قضاء رام الله، وأصبح القائد الفعلي لهذا المقر قاسم محمد الريماوي (1918-1982)، الذي كان يشغل سابقًا أمانة سر القائد العام لقوات الجهاد المقدس الشهيد عبد القادر الحسيني.
خلال الشهور الفائتة عكفت على الانشغال في نصوص الريماوي عن الجهاد المقدس، نصوصه المخطوطة التي لم تر النور من قبل، ونصوصه المنشورة، والتي كتبت لأسباب مختلفة، وعلى أشكال مختلفة، وفي أزمنة مختلفة. والتي ستنشر قريبًا عن مشروع دراسة وتوثيق القضية الفلسطينية، وسلسلته "ذاكرة فلسطين"، بعنوان أولي "داخل السُّور القديم... نصوص قاسم الريماوي عن الجهاد المقدس، تحقيق ودراسة". في هذه النصوص يلحظ اهتمام الريماوي بإبراز موقع قضاء رام الله في الحرب، ودور أبنائه المركزي في معاركها الرئيسية، خصوصًا معارك القدس ضد العدوان الصهيوني، وكذلك دوره في السعي لتثبيت كيان فلسطيني بعد دخول الجيوش العربية لفلسطين، وقرارها بتهميش، فاجتثاث المقاتل الفلسطيني.
من بين هذه النصوص، أستلُّ هذا النص الذي يحاول فيه الريماوي استحضار دور قضاء رام الله المركزي في المعارك، من خلال الإضاءة على الأسباب التي دفعت بالشهيد عبد القادر الحسيني لاتخاذ المنطقة مقرًا رئيسًا لقواته، ومنطلقًا لأبرز عملياته العسكرية، سواء عمليات الاشتباك وإدارة الدفاع عن القدس وجوارها، أو عمليات النسف الكبرى، ومنها هذه العمليات: 1 شباط/ فبراير 1498: نسف البالستاين بوست؛ 22 شباط/ فبراير 1948: نسف شارع بن يهودا؛11 آذار/ مارس 1948: نسف الوكالة اليهودية. والنص مستل من مسودة مخطوطة كتبها الريماوي عن الشهيد الحسيني بعد خروجه من فلسطين إثر حل قواته، واقتحام مقر قيادته في بيرزيت في العام 1949 وهجرته للقاهرة. كتب الريماوي:
"عاد عبد القادر {الحسيني} إلى قضاء رام الله ليتخذه، مركزًا لأعماله وقد أحسن الاختيار، ودل بذلك على حنكة بارعة، فما أعلن استقراره في قضاء رام الله حتى التف عليه جميع رجال القضاء يمدونه بالسلاح والمال، ويضعون حياتهم وأموالهم وأسلحتهم تحت تصرفه، ولا أبالغ إذا قلت أن أهالي هذا القضاء حملوا العبء الأول في جميع نواحي الجهاد المقدس قبل دخول الجيوش العربية، فمنهم كان المسلحون الذين يخوضون المعارك بجانبه وتحت قيادته، ومنهم كانت النجدات تتوارد بالمئات، وتبقى أشهرًا للدفاع عن مدينة القدس، ومنهم تواردت النجدات إلى منطقتي اللد والرملة وراس العين وبيت لحم وبيت جالا وقضاء الخليل.
"أهالي قضاء رام الله حملوا العبء الأول في جميع نواحي نواحي الجهاد المقدس قبل دخول الجيوش العربية إبان حرب النكبة"
وقد التف جميع أهالي القضاء حول عبد القادر التفاف الإسور بالمعصم، وكان لا يبدأ المعركة إلا بثلاثين شخصًا ولا يخرج منها إلا بالمئات{مثال على ذلك: {24 كانون الثاني/ يناير 1948: معركة بيت سوريك؛ 11 شباط/ فبراير 1948: احتلال معسكر راس العين؛4 آذار/ مارس 1948: معركة الماصيون،10 آذار/ مارس 1948:} معركة شعفاط ونيفيه يعقوب} وقد باع القرويون منهم مؤونهم وأعز ما لديهم لشراء الأسلحة حتى أربى عددهم عن الألوف، وكانت كل قرية لا تألوا جهدًا في تقديم خيرة شبابها لنجدته وتحت قيادته، ولم يتأخر أي شاب أو دكتور أو ممرضة عن تقديم ما في استطاعته لمؤازرة القائد الباسل، يقدمون ذلك عن حب خالص وبمحض اختيارهم بلا إكراه أو إجبار. أما أسباب اختياره لهذا القضاء ليكون مقرًا لأعماله فترجع إلى ما يلي:
أولًا لأن قضاء رام الله قضاء عربي خالص، فهو القضاء الوحيد الذي لم يدنسه اليهود، ولم يستولوا على شبر من أراضيه ولم يسمح لهم التجول فيه. وثانيًا لأن هذا القضاء يمتاز بموقعه الجغرافي، فهو يقع في قلب فلسطين ومنه تسير بسهولة المواصلات وكثرتها فيه وثالثًا الوصول إلى مختلف المدن والانحاء بسهولة فائقة لسهولة المواصلات وكثرتها فيه. ورابعًا لقربه من مدينة القدس. خامسًا لِما عُرف عن رجاله من شدة البأس وعظم التضحيات في سبيل الله والوطن، وما عرف عن سعة وعيهم وعلو ثقافتهم، فهو الذي قال فيه القائد دل في تقريره أنه خير قضاء حمل أعباء الثورات والتضحيات في مختلف أنحاء الثورة.
سادسًا لأن المعروف عن أهالي هذا القضاء أنهم يتناسون انقساماتهم الحزبية وقت الجد، فيقفون صفًا واحدًا في سبيل الذود عن بلادهم، {ومثال على ذلك ما يرويه أحد أبناء إحدى القرى المجاورة لرام الله، إذ يشير أنه لدور معظم أبناء القرية في فصائل السلام في ثورة 1936-1939، هجر شباب القرية بلدتهم ببنادقهم للجبال المجاورة، بعد ورود الأنباء إليهم بأن الشهيد الحسيني في طريقه إلى القرية، وبعد أن وصل الشهيد أرسل إليهم مخبرًا بأنه أتى متجاوزًا صفحة الماضي، مؤسسة لصفحة جديدة استعدادًا للمعركة الكبرى، فما كان منهم إلا أن عادوا للبلدة وحملوا بنادقهم السبعة منضمين لعبد القادر، وكان هو أحد حرس المقر الشخصيين}.
سابعًا لأن فيه عددًا كبيرًا من المسلحين. وثامنًا لأن خيرة أنصار عبد القادر ورجاله العاملين من الأشخاص البارزين في هذا القضاء. وتاسعًا لأنه يوجد في هذا القضاء حمائل وعشائر وعائلات كثيرة وكبيرة، معروفة بصدق وطنيتها وتمسكها بالمبادئ القومية الصحيحة .وعاشرًا لتوفر وسائل النقل ووجود المستشفيات ورجال الطب والممرضات. والحادي عشرة لأن فيه حصون طبيعية وجبال صعبة ومواقع استراتيجية كثيرة.
وهكذا تم اختيار بلدة بيرزيت لتكون مقرًا للقيادة العامة للجهاد المقدس، فتم استئجار ستة بنايات لهذا الغرض ولتكون مقرًا للقوى الضاربة والقوى النظامية، ومركزًا للقيادة العامة.
اقرأ/ي أيضًا:
"لا تزر أحدًا.. لا تستقبل أحدًا" عن تجربة الاختفاء فلسطينيًا