أسير مع صديقي في شوارع هذه المدينة الداكنة، نتسلّى في السخرية كلٌّ من دين الآخر.
- دينك يحض على البلاهة.
- دينك لا هيكل عظمي يحتويه.
ونضحك قبل أن نغرق في تشعّبات وضع المدارس في حيفا، وعن فقاعة حيفا، وعن أغاني فيروز وأمّ كلثوم والأراضي المصادرة في النكبة، وحزبي الذي يكرهه قدر حبّه لي.
ونتذكّر أنّنا صرنا في كانون الأول/ديسمبر، جافّ من الأمطار كأنّه حزين على الإعلان الذي يدق مسمارًا آخر في نعش القدس التي ما زالت تنتهك منذ سبعين عامًا.
ها قد أتى العيد، ثلاثة أعياد تلتقي في ثلاثة ديانات، عيد الحانوكا (الأنوار) اليهوديّ، وعيد الميلاد المسيحي، وعيد الـ..
لحظة، تبًّا فأعياد الإسلام تلك ترفض أن ترتكز لنقطة ثابتة، كانَ مرة عيد الأضحى وصار عيد الفطر ثم صار رمضان، والآن هو عيد المولد النبوي، لا يهمّ، فالإسلام بطبعهم إمّا نكديون لا يحبون الأعياد أصلًا، وإما منفتحون يتقبلون الأعياد الأخرى كفرصة للتلصص.
نسير في هذا السيرك الكبير ننظر إلى أنفسنا ونبتسم، نصنع لهم طعامهم - الحمص والتبولة والفلافل - حتّى يتباهوا به بين الأمم.
لقد صرنا يهودهم، يأتون إلى مخيّماتنا ويصورون أطفالهم مع ديناصوراتنا. ويأكلون طعامهم الوطنيّ الذي نصنعه من أجلهم.
تتداور المواقف منك تبعًا للظروف، عادةً ما يكون الموقف الرسمي منك موقفًا يتبع دينك الذي قد يكون مسلمًا سنيًا أو شيعيًا أو درزيًا، أو حتى بدويًا، أو مسيحيًا، كاثوليكيًا أو أرثوذكسيًا أو لاتينا أو بروتستانتيًا، أو غيرها من الملل والطوائف التي يتم تربيتها كميكروبات المختبر حتى تصبح جسدًا. ونتلقّف نحن تلك التقسيمات كالوزّ في مزرعة تبيع كبده، فنهتف في مظاهراتنا: "وحدة وحدة وطنية... إسلام دروز ومسيحية"، وحدهم الملاحدة لهم الله.
فقط حينما تريد أن تشتري بيتًا في حاراتهم، أو أن تعمل في أماكن عملهم تفقد تلك التسميات من رونقها وتصبح بالنسبة لهم مجرّد عربيّ.
نجلس في زاويةٍ من زوايا شارع يافا في مطعم منذ ألف وتسعمئة وخشبة، يصم أذنيّ صراخهم وضجيجهم الذي لا مفر لك منه إلا في تلاشيك أنت.
شارع يافا هو نسخة مصغّرة عن نكبة هذه المدينة، كما هي يافا نسخة مصغرة عن نكبة فلسطين
شارع يافا هو نسخة مصغّرة عن نكبة هذه المدينة، كما هي يافا نسخة مصغرة عن نكبة فلسطين، البيوت (التي لم تهدم) هي نفس البيوت، والشوارع نفس الشوارع، وحتى أسماؤها العربية ترشح من تحت أطنان الإسمنت والترميمات التي صبّت فوقها، وحتّى شباب ما بعد الحداثة ما زالوا يزلّون بتلك اللغة المستحدثة لتضبطهم متلبسين بعروبتهم تحت أقنعة الغسيل الغربي، فماذا اختلف إذًا، لماذا مسحة الألم عندما تضبط بناية عمرها أكبر من عمر هذه الدولة صارت بناية لوزارة الإسكان؟ ولماذا تئنّ الروح ألمًا عندما يتباين معنى "شارع الاستقلال"؟ أو عندما يضاجع شارعٌ جديد شارع يافا سمّوه شارع تل أبيب؟
يقول المؤرّخ إن حيفا كانت تحوي خمسة وسبعين ألفًا من السكان العرب، وقد بقي منهم بعد النكبة ثلاثة آلاف وخمسمئة عربي.
تضغط الدولة الفتية على العرب في قراهم فتحشرهم "كالصراصير في القنينة" ليخرج بعضهم منها ويستوطنوا في مدنها، حيفا ويافا ونتسيرت عيليت (أو باسمها المعرب الناصرة العليا) وكرميئيل، أوّل سؤال تسأله للعربي الحيفاوي: "من أين أنت؟"، فهو من كل الأماكن سوى حيفا.
حيفا مدينة غريبة، فقاعة داكنة من الشعور بالأمان
حيفا مدينة غريبة، فقاعة داكنة من الشعور بالأمان، أمانٌ بنسبة ثلاثةٍ ونصف من خمسة وسبعين، واضحٌ أنّ المستعمر لن يعود على نفس الخطأ مرتين، وفي المرة القادمة –التي ستأتي لا محالة- ستكون النسبة صفرًا.
نذهب إلى مسرح نما كصبّارٍ في الصحراء، نشاهد فيلمًا يلكمنا جميعًا حتى تسيل الدماء من أنوفنا، فيلمٌ جمع اليسار واليمين الفلسطيني مع اليسار واليمين الصهيوني في رفض عرضه وتمويله، فنحن نخاف الحقائق القابلة للاشتعال، ونفضل عليها الكذب الملبّق بالزهور والنقود.
نجلس أنا وصديقي في شارع يافا في مساء الجمعة الذي يتظلّل فيه اليهود العلمانيون بنا "عرب المدينة" حتى تتسنى لهم فرصة في السهر عند الجوييم "الأغيار"، والتلذّذ بموهبتهم في صنع الحمّص التي يتفوق عليهم بها "إلياهو" الآن. نطلب صحن "الخومُوس" من النادلة العربية التي تخاف أن تُطرد إذا ما صحّحت لسانها، ونعود إلى السيارة بجانب عمارة الصاروخ الذي يقف برزخًا بيننا وبين الوطن الذي نريد، ليس قبل أن نمرّ بمسجد وكنيسة يستتران خلف الأزقة ويعطيان فرصة للغزاة بالتبول في طريقهم إلى البيت.
نمر بحاجز عابر لشرطة الدولة العابرة، يسألنا من أين أنتم أقول "حيفا" بلهجة مفضوحة، فيضع يده على يمينه احتسابًا لأيّ طارئ طالبًا رخصتي، أعطيه الرخصة، وهنا تقع "الكارثة"، لقد نسيت تحديث مكان سكني على رخصة السواقة، ليكتشف أنّني من سكان أم الفحم، عبثا ضاعت محاولاتي شرح موقفي، حتى ادعاء صديقي بأنه حيفاوي مسيحي بَدَتْ له كذِبًا محْضًا وهو يطلب منّا الترجل من السيارة ريثما تصل التعزيزات ضد أولئك المارقين لمجرد وجودهم أصلًا في مكان أعدّ لغيرهم.
تجلس في التوقيف تحاول أن تفهم ماذا تريد منهم وماذا يريدون منك، مهما حاولت اللف والدوران أو أن تمثل دور أميل حبيبي كـ"باقٍ في حيفا" ستجد المنزلق يجرّك إلى مكان واحد وموقف واحد، لن تنجح تلك الخدعة الاستعمارية المطعّمة بالأساطير المسروقة التي خلقت جيوشا من "الزومبيس" يتلذذون بالدعس عليك، كل ما يمكن التنبؤ به هو كيفية تلاشيك أنت أيضا "كإنسان" في تلك الطريق إلى جهنم المرصوفة بالنوايا السيئة.
اقرأ/ي أيضًا:
لماذا لم ينتهِ الاحتلال في عام 2017؟