أن تكون فردًا من بين مليوني شخص يبدون كالمعتقلين بفترات زمنية مختلفة في منطقةٍ ساحلية ضيقة بحجم مدينة "سياتل" الأمريكية لكن على البحر المتوسط، وتحفل بسجلٍ قياسي في عدد التحذيرات الإنسانية والمعيشية، فأنت حتمًا في قطاع غزة.
فخلال سنوات، اعتاد سكان القطاع ذو المعابر المحلية والدولية شبه المغلقة رؤية زياراتٍ لوفودٍ أجنبية وسرعان ما تنتهي بمؤتمراتٍ صحفية، وتحذيراتٍ مصحوبةٍ بأرقامٍ حول الوضع الإنساني الكارثي في هذه المنطقة، على الرغم من أنه يمكن القول إن سكانها طوروا "استراتيجيةً" للتعاطي مع مثل تلك الإنذارات، وهو أمرٌ لن يكون عابرًا إذا تعلق بمجتمعٍ آخر.
منظمات وشخصيات دولية تحذر على الدوام من الأوضاع الكارثية في غزة وأنها لن تكون قادرة على الحياة بعد سنوات
فحظ هؤلاء السكان الذين تجاوز عددهم المليونين قبل أسابيع، وفي منطقة تُعد الأكثر كثافةً سكانية في العالم؛ وكآبة الواقع الحياتي الذي يعيشونه بسبب طول سنوات الاحتلال وحروبٍ ثلاثة متتالية وانقسامٍ داخلي، دفع المجتمع الدولي لإطلاق عشرات التحذيرات من المخاطر المحدقة بسكان القطاع.
اقرأ/ي أيضا: سرطان الثدي قد يعني الطلاق بغزة
"الوضع هنا لا يُمكن تحمله"، قالها الوفد الأوروبي خلال زيارته لغزة في تشرين الأول الماضي، فيما أفاد تقرير أممي في صيف 2012 بأن "غزة لن تكون ملائمة للعيش في عام 2020". وقال تقريرٌ للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن "55% من سكان القطاع يعانون من الاكتئاب"، بينما أكدت "أوكسفام" في شباط من عام 2015 أن "إعادة إعمار قطاع غزة قد تحتاج إلى 100 عام".
كما صرحت "الأونروا" في خريف 2013 بأن "الحياة في قطاع غزة مستحيلة"، وقد كان ذلك واحدًا من تصريحات كثيرة مشابهة لهذه المنظمة.
لكن أهالي القطاع الذين يصفون أنفسهم أنهم شعبٌ "معتادٌ على الأزمات"، فقد فضلوا مقابلة تلك التصريحات بمزيدٍ من اللامبالاة، ولا يبدو الأمر لهم جديًا أبدًا، رغم أنها تمس حياتهم بشكلٍ مباشر.
"لن تحتاج إلى جهد للبحث عن أي من مشاهد لفقدان الأمل، فيكفي أن تراقب أي زاويةٍ من شارعٍ في المدينة عندها ستكون مفهومًا معقدًا عن معنى اليأس". هكذا تحدث عبد الحكيم أبو جابر (36 عامًا) تاجر الفاكهة في سوق "الزاوية" الشعبي.
ويقول أبو جابر: "تخزين الدقيق والزيت والسكر كان في العهد الماضي كإجراء وقائي نتخذه تحسبًا لأي طارئ. أما اليوم فإن تصريحات المسؤولين الدوليين ليست سوى حرب باردة نحو أهالي غزة لدفعهم للمزيد من الإحباط، على الرغم من أن تحذيراتهم قد تكون صحيحة".
ويضيف، أن "المجتمع الدولي هو من يخلق الأزمة في غزة دائمًا ثم يثير حولها التصريحات المفزعة.. كنا نخاف في الماضي، أما اليوم فلن نحرك ساكنًا".
فيما يعتقد نضال السوافيري (52 عامًا) الذي يدير متجرًا لبيع اللحوم، أن تردد اسم غزة دائمًا ضمن قوائم التحذيرات الإنسانية الدولية "لا يُمثل سوى حساباتٍ سياسية لا دخل لنا بها".
ويقول السوافيري: "طوال حياتي لم أعرف سوى الصراعات والقوى والأحزاب والاحتلال، فهل سيأتي أحدهم يومًا ليحذرني ويقنعني بوجوب فعل شيءٍ ما؟ لن يتغير شيء في غزة طالما أن إسرائيل تمارس قوتها الاحتلالية".
ويرى الباحث في علم الاجتماع جميل الطهراوي أن السكان الذين يتعرضون لأزماتٍ متتالية – مثل قطاع غزة- عادةً ما يقضون أوقاتهم في حياتهم وأعمالهم اليومية بعيدًا عن الذي فقدوا ثقتهم فيه طوال عقود.
ويعتبر الطهراوي أن سكان غزة يعيشون مرحلة "الانطفاء" وفق مفهوم علم النفس، "إذ يُبدي الناس استجابات لمرتين أو ثلاث تجاه حدثٍ ما فشل في إحداث تغيير إيجابي، ثم تنطفئ لديهم الاستجابة وردة الفعل في حال تكرر الحدث أو الوعد بإحداث تغيير".
كذلك الأمر بالنسبة لطبيب الأسنان رائد جودة. فهو يعتقد أن توالي التحذيرات السلبية لما يجري في غزة من شأنه بثّ مزيدٍ من الإحباط لسكانها؛ "وهو ما يُفسر رغبة آلاف الشبان بالهجرة والبحث عن ذاتهم ومستقبلهم في مكانٍ آخر"، وفق قوله.
ويؤمن جودة (38 عاما) أن المجتمع المحلي وقادة القوى وصُناع الرأي "يُسهمون لا إراديًا في دق أجراس الخطر غير المُبرر وتحطيم ما بقي من روح معنوية لدى الأهالي، لكنهم بحسن نية يقصدون جذب اهتمام العالم لما يحدث في هنا من أوضاعٍ إنسانية لا تُحتمل".
"هذا الوضع الإنساني ليس مجرد حدثٍ طارئ في تاريخ شعب؛ فحل الواقع بغزة يكمن ضمن مناقشة مستقبل سياسيٍ وإدراك أن شظايا انفجار الأمور هنا ستصيب المنطقة ككل"، وفق رؤية المحلل السياسي ناجي شُراب.
ويقول شراب، "صناع القرار في غزة سواءً المحليين أو الدوليين في وادٍ والشعب في وادٍ آخر"، مضيفًا، أن السياسيين وصناع القرار لا يتمتعون بأي مصداقية لدى الأهالي، حتى ولو تمت محاولة استدراجهم بالمال، فسرعان ما تسري اللامبالاة على عقلياتهم".
ويُخبرنا أخيرًا بائع اللحوم: "هنا لا نموت ولا نعيش... نعيش معلقين حيث لا يوجد شيء مؤكد، فالخوف وقلة الحيلة هما ما يُسيطران على حياة هؤلاء الناس".
اقرأ/ي أيضا:
غزة.. و"بديهيات الحب" في "حارة العبيد"