01-يناير-2019

كنت أتذمّر لصديقي من الحياة وعيشها لمّا قاطعني فجأة وقال لي أنّ الرئيس حلّ التشريعي، عندها وبلا مبالاة مطلقة توقّفتُ لحظةً عن الكلام، ثمّ عدت إلى تذمّري من الحياة وعيشها دون أيّ تعليق ولو بكلمة حول الأمر؛ هذا مبلغ أهميّة الهيئة التشريعيّة التي يُفتَرَضُ أنّها تسنُّ القوانين التي تحكُمُ سير حياتي بأكملها في هذه البلد.

موت السياسة، أو المواطن اللاسياسيّ، أو المواطن اللامنتِمي -لمُواطنَتهِ بالطّبع أو امتدادات هذه المواطنة- أو ربّما الفلسطينيُّ الجديد، ولكن ليس ذلك الغالبُ تعريفه على أنّه نتاج سياسات اقتصاديّة نيوليبراليّة تغريبيّة للإنسان الفلسطيني، بل الفلسطينيُّ الذي شاهدَ وعرَفَ وخَبرَ كُلّ الخطايا الممكنة، كان جزءًا منها، شاهدًا عليها، وكان إلى حدٍ كبير مشاركًا بها عبرَ صمتهِ عنها أو عبر مشاركته الفعلية. والخطيئةُ أصلُ الكارثة؛ ومَنْ يُخطئُ مرارًا غالبًا لا يتعلّم وربّما لا يتوقّف عن الخطأ، بل يغرقُ فِيهِ حتّى أذنيه.

البلاد لم تعد بلادًا، والأرضُ المحتلّة ليست محتلّة وحسب، بل هِي أرضٌ مُتاحة، واحتِلالها منذ زمن لم يعد هو القضيّة الأساسيّة

عندما أسمَع فلسطينيًا لاجئًا في الشتات لم يرى فلسطين من قبل، لم يعش فيها ما عشناه نحن الخُطاةُ الفلسطينيون في الضفّة الغربية على وجه الخصوص، أعرفُ جيّدًا معنى أن تكون غارقًا في الخطايا حتّى أذنيك فلا يعود لديك طاقة على الاكتراث بشيء. يُسمّونها بـ"الأرض المحتلّة"، أو "البلاد". كلمات غاية في الرومانسيّة وغاية في البعد عن الواقع؛ البلاد لم تعد بلادًا، والأرضُ المحتلّة ليست محتلّة وحسب، بل هِي أرضٌ مُتاحة، واحتِلالها منذ زمن لم يعد هو القضيّة الأساسيّة.

اقرأ/ي أيضًا: كومة مشاعر سياسية

من عاش في البلاد الـ15 سنة الأخيرة يدرك المغزى؛ من رأى بأمّ عينيه رجال المقاومة وهم يتساقطون بين اليوم والآخر في قبضة "الشاباك"، وفي قبضة الأمن الوقائيّ، يعرفُ معنى الخطيئة أكثرَ ممّن سمع بالأمر، أو عرف أنّ الأمر حدث وحسب. من رأى وجوه النّاس وهي تُغرِقُ في السواد يومًا بعد يوم كلّما أصبحت رقابهم مطوّقة بسلاسل القُروضِ والوظائف، يدركُ معنى أنّ البلاد لم تعد بلادًا، بل هي أقربُ لأن تكون مجمّعًا استثماريًا لأصحابِ رؤوس الأموال من الحاشية والجماعة الاقتصاديّة الأمنيّة المتعاونة مع الاحتلال.

نقدُ السلطة أو مناقشتها أو حتّى السخرية من تناقضاتها التي لا تنتهي، لم يعد شيئٌ من هذا مجدٍ أو حتى أن يكون لنا طاقة عليه. "نيّال" أولئك الذين لم يعيشوا هذه السنين، الذين ما زالوا يحملون في دواخلهم صورة "أرض البرتقال"، ويحاولون تخيّل رائحة البرتقال الذي لم يعد يُزرعُ أصلاً. الذين لا زالوا يسمّون "البلاد" بلادًا، ويسمّونها بـ"الأرض المحتلّة" لأنّ ما يصلهم من صور هو عبارة عن اشتباكات خفيفة تجري على مداخل المدن بين الحين والآخر؛ وبرغبةٍ من جيش الاحتلال، بينما المدن غارقة في اقتصادها الهشّ.

بسياساتٍ مدروسةٍ أم باعتباطيّة العمالة، جُرِّدَ فلسطينيّو الضفّة الغربيّة من فلسطينيّتهم إلى حدٍ كبير، جرِّدوا جرّاء كمّ التنسيق الأمنيّ الذي جرى أمام أعينهم ولم يعد أمرًا جللاً في نظرهم، بل مجرّد فصل آخر من فصول نذالة جماعة فلسطينيّة. والجملة العاميّة التي نحكيها لبعضنا البعض ساخرين من دهشتنا من سوء شيءٍ بسبب سوءِ حالٍ أصلًا: "كلّ اللي عم بصير، وهذا اللي هامّك؟"، أصبحت دينًا سياسيًّا ومعتقدًا شعبيًا أصيلاً عند مراجعة سلوكيّات السلطة الفلسطينيّة أو عند مراجعة تاريخ القضيّة.

بسياساتٍ مدروسةٍ أم باعتباطيّة العمالة، جُرِّدَ فلسطينيّو الضفّة الغربيّة من فلسطينيّتهم إلى حدٍ كبير

من عاش في بيروت الحرب الأهليّة، من عاش في الكرامة، ولا زال على قيد الحياة ولم يدخل "الأرض المحتلّة" مع الدّاخلين تحت رايات أوسلو، يعرفُ معنى أن تُمسِكَ قبضتك على جمر ذاكرة مشتعلة في داخلك؛ وتعيش فيها وترفض العيش في الواقع، أن تظلّ عالقًا في التاريخ عند زمنٍ ما، عند مرحلة ما تعتقد أنّها كانت "الفردوس المفقود"، ولن تعود في يوم من الأيّام وتظلّ في حنين دائمٍ إليها.

ربّما كحال كثيرٍ منّا اليوم؛ الانتفاضة الثانية أو الذين عاشوا الانتفاضة الأولى؛ تلك هي الحالة الفردوسيّة المفقودة، تلك هي الصورة التي تهوّنُ مصائب الحاضر المتلاحقة وتولّدُ إيمانًا بعودة حتميّة إلى تلك الحالة.

حلُّ التشريعيّ، احتجاز رئيس المجلس، إدانة نتنياهو لدعمه حماس واتّهامه بدعم الإرهاب، فساد وتمسّك في السلطة، هذا كلّه لا يعني شيئًا أو أحدًا على ما يبدو، سوى أولئك الذين هو شغلهم الشاغلُ. أمّا بائع القهوة المتجوّل فهذا ليس شأنه بالمطلق، والعامل قد تمرّ أيام أو ربّما أسابيع دون حتى أن يفكّر بالخوض في أيّ شأن سياسيّ سوى ما يتّصل بلقمة عيشه. أمّا الأستاذ الجامعيّ فعليه التظاهر بالاهتمام، أو حتى أن يعبّئ وقت فراغه بالاهتمام ولكن دون أيّ وهمٍ بقدرته على التأثير.

في النهاية، قد تكون المحاججة بأنّنا "مواطنون لامنتمون، أو مواطنون لاسياسيون"، غير صحيحة بالنّظر إلى كمّ التفاعل عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ حول القضايا السياسيّة والوطنيّة. ولكنّها صحيحة إن كانت الحالة النهائيّة هي حالة مواطنٍ يتفاعل عبر المشاهدة والاحتجاج الساخر الذي لا يقصدُ الاحتجاج بالفعل بقدر ما يقصدُ المشاركة في ظاهرة الاحتجاج الجماعيّ. بمعنى ساخر؛ هو احتجاج عرَضَيٌ نتيجة احتجاجٍ آخر قد يكون عَرَضيًا أيضًا، وليس موقفًا سياسيًا حقيقيًا.

وفي النهاية أيضًا، من المحزن هذا الحال، من المحزن أن تكون فلسطينيًا دون أن يعني ذلك شيئًا يوميًّا يُلمَسُ ويُمارَسُ يوميًا، من المحزن أن اشتباكًا مع الاحتلال يستدعي التوجّه إلى حيثُ يكون، ومن ثمّ سيُقرِّرُ الاحتلال أن يشتبك أو لا يشتبك بسبب الجغرافيا اللعينة التي خلقها، ومن المحزن في كلّ حال احتجازُ رئيس هيئة تشريعيّة إلّا أنّ المحزن أكثر هو اعتقادهُ حقًا أنّه رئيس هيئة تشريعيّة عليا بحقّ.


اقرأ/ي أيضًا:

اقتناص الوظائف العليا في دولة يحدها حزب واحد

صلاح بديلاً للقضايا الكبرى: أو كيف تعلمت اللامبالاة

هزيمة قاسية أمام أغنية جميلة