كانت ليلى أحمد (23 سنة) من مدينة الخليل، تجهز احتياجات زفافها، وتضع لمساتها الأخيرة قبل دخولها بيت الزوجية، عندما شعرت بتغيرات في جسدها، أبرزها أن وزنها ينقص بشكل سريع، لتقرر إجراء فحوصات على أمل أن تستعيد عافيتها قبل موعد الزفاف، متوقعة أن القصة تتعلق بنقص فيتامينات أو نحوه، لكن الطبيب طلب فحوصات من نوع آخر ليتبين إصابتها بسرطان الثدي، أعادت الفحوصات ثانية وثالثة، كلها أكدت الإصابة.
"كانت علاقتنا تتراجع بشكل تدريجي، إلى أن طلبت عائلته إنهاء هذا الزواج. قالت والدته بشكل صريح إنها تريد أن ترى أطفاله، تظاهرت بأني تقبلت الأمر، ولكن في الحقيقة تركني في أكثر أوقاتي حاجة لوقوفه إلى جانبي"
"كانت الصدمة كبيرة. حاول زوجي المستقبلي تمالك نفسه" تقول ليلى، مبينة أنهما قررا تأجيل مراسم الفرح لثلاثة شهور، وخلال هذه الفترة خضعت لجلسات علاج قاسية. تضيف: "كانت علاقتنا تتراجع بشكل تدريجي، إلى أن طلبت عائلته إنهاء هذا الزواج. قالت والدته بشكل صريح إنها تريد أن ترى أطفاله، تظاهرت بأني تقبلت الأمر، ولكن في الحقيقة تركني في أكثر أوقاتي حاجة لوقوفه إلى جانبي".
وتوضح ليلى، أنها عاشت رحلة علاج مؤلمة، ولكن الأكثر ألمًا بالنسبة لها، هو شعور الوحدة والخذلان، وتمتات من حولها أنها لن ترتدي فستانها الأبيض يومًا، وكأنها كانت في حلم جميل، فاستيقظت على كابوس مرعب، ما زالت تعيش تفاصيله كلما تذكرت أنها امرأة "غير مرغوب فيها".
ليلى كان حظها أقل سوءًا من حظ فاطمة محمد ( 20 سنة) من مدينة طولكرم، التي لم ينتظر خطيبها فتركها فور إصابتها. لم تتقبل الخذلان، وقررت أن لا تكمل مسيرتها التعليمة وهي طالبة جامعية في سنتها الثالثة، تدرس تخصص الشريعة الإسلامية.
قالت فاطمة، إنها تخلت عن كل أحلامها ومخططاتها، وكانت تردد دائمًا: "أنا ما بدي أتعالج وما بدي أطيب إذا خطيبي ما بدو إياني". أمضت على أثر ذلك فترة طويلة بحالة نفسية صعبة من تبعات الانفصال الذي حدث في مرحلة حرجة وحساسة من حياتها.
رائدة غازي (34 سنة) من الخليل، كانت إصابتها بسرطان الثدي وهي طفلة بسن 15 سنة. وجاءت بعد فترة قصيرة من إصابة شقيقتها الكبرى بذات المرض، وكلاهما شُفيتا تمامًا، خاصة أن المرض اكتُشف في مراحله الأولى. تقول رائدة: "مع ذلك، عمره ما حد دق باب دارنا". في إشارة أنه لم يتقدم لهما أي خاطب، رغم أن وضعهما الصحي جيد، وقدرتهن على الإنجاب لم تتأثر بالعلاج، وفقًا لما أفادهما به الأطباء.
السرطان.. سري للغاية
ورغم حملات التوعية بسرطان الثدي، التي تكون على أشدها سنويًا في شهر تشرين أول/أكتوبر، وتكرار هذه الحملات القول إن هناك تغيرًا إيجابيًا في التعامل المصابات بهذا النوع من السرطان، إلا أن الشواهد المجتمعية توضح أن التغيير ليس كبيرًا ولا جذريًا.
مصابات رافقهن أشقاؤهن أو آباؤهن في رحلة علاج سرية في المستشفيات، حتى لا يكون خروج البنت مع أمها لافتًا ويفتح باب الأسئلة في محيط العائلة. كما تخفي الأمهات المصابات مرضهن خوفًا على "سمعة" باقي أفراد الأسرة، خاصة الفتيات غير المتزوجات
وماتزال بعض عائلات المصابات تخفين مرض بناتهن، خوفًا من عدم القدرة على مواجهة المجتمع. يظهر ذلك في قصص اطلع عليها الترا فلسطين لمصابات رافقهن أشقاؤهن أو آباؤهن في رحلة علاج سرية في المستشفيات، حتى لا يكون خروج البنت مع أمها لافتًا ويفتح باب الأسئلة في محيط العائلة.
الأستاذة أمل ذويب، مديرة مركز السديل للرعاية التلطيفية، قالت أن بعض العائلات التي تتحدث عن إصابة بناتها بالسرطان تقول إنه "حميد" وليس "خبيث"، لتلطف من وصف الإصابة عند تقدم خاطب لابنتهم. كما تخفي الأمهات المصابات مرضهن خوفًا على "سمعة" باقي أفراد الأسرة، خاصة الفتيات غير المتزوجات، لاعتقادهن أن هذا يساهم في تقليل فرصهن بالزواج.
الحاجة يسرى راضي، التي أصيبت بسرطان الثدي في عمر متقدم، أخفت إصابتها ولم تتلقى العلاج إلا بعد 5 سنوات من الإصابة، والسبب أنها تخشى مما تصفه " بوسمة العار" وخوفها ألا يطرق بيتها طالب لبناتها الخمسة، انتظرت يسرى حتى تزوجن، ثم انطلقت في رحلة علاج متأخرة، دفعت ثمنها من صحتها، ولكن بالنسبة لها لا يهم، المهم ألا يرفض المجتمع بناتها بسبب إصابة الأم، والخوف من العوامل الوراثية وغيره.
ويشكل سرطان الثدي حوالي 18% من مجمل أنواع السرطانات المسجلة في فلسطين، و32% من السرطانات المسجلة بين النساء الفلسطينيات، وفق معطيات أفادت بها وزيرة الصحة مي الكيلة مطلع شهر تشرين أول/أكتوبر الحالي.
العزوف عن إجراء الفحص أدى لتشخيص أكثر من نصف حالات سرطان الثدي في فلسطين في مراحل متقدمة، وبالتالي ارتفاع معدل الوفاة بهذا المرض رغم توفر علاج ناجع له في حال اكتشافه في مراحل مبكرة
وأوضحت الكيلة، أن هناك عزوفًا من النساء في فلسطين عن إجراء فحص الماموغرام -الأكثر فعالية في الكشف عن سرطان الثدي- رغم أنه يتوفر مجانًا في مراكز موزعة جغرافيًا على جميع مناطق السلطة الفلسطينية.
وأكدت، أن العزوف عن إجراء الفحص أدى لتشخيص أكثر من نصف حالات سرطان الثدي في فلسطين في مراحل متقدمة، وبالتالي ارتفاع معدل الوفاة بهذا المرض رغم توفر علاج ناجع له في حال اكتشافه في مراحل مبكرة.
تجميد البويضات: خطوة هامة وغير ممكنة لغير المتزوجات
الطبيب نضال الجبريني، نائب رئيس جمعية مرضى السرطان في الخليل، قال إن الزواج والحمل يحمي بنسبة كبيرة من الإصابة بمرض سرطان الثدي، وإن حالات عدة تم التعامل معها لسيدات أصبن بالمرض، ثم تزوجن وأنجبن وعشن حياة طبيعية، وهذا يعتمد على نوع الورم، والمرحلة التي وصل إليها.
وأضاف الجبريني، أن الحالات المتقدمة من المرض لمصابات متزوجات وتحتاج إلى علاج الكيماوي، يتم إرسالها إلى طبيب نسائي مختص قبل البدء بإعطاء الجرعات، بهدف تجميد البويضات، ثم متى ما قررت المرأة الحمل، تتم عملية زراعة البويضات في الرحم، مع ملاحظة أن هذه الخطوة لا تتم إلا بعد سنة من تلقي الجرعات.
العديد من الفتيات عبرن عن رغبتهن بتجميد البويضات، غير أن هذا الإجراء "صعبٌ ومعقدٌ" في الوقت الحالي، فهو يحتاج إلى فتوى شرعية بجواز تجميد البويضات للعازبات، إضافة إلى أن التدخل الطبي مختلف بالنسبة للفتاة غير المتزوجة
لكن ماذا عن الفتيات غير المتزوجات؟ هل يُسمح لهن بتجميد البويضات قبل العلاج الكيميائي؟ أجابت جميلة أبو خيزران، المدير الإداري في مركز رزان للإخصاب في رام الله، بأن العديد من الفتيات عبرن عن رغبتهن بتجميد البويضات، غير أن هذا الإجراء "صعبٌ ومعقدٌ" في الوقت الحالي، فهو يحتاج إلى فتوى شرعية بجواز تجميد البويضات للعازبات، إضافة إلى أن التدخل الطبي مختلف بالنسبة للفتاة غير المتزوجة عن الإجراء المتبع عندما تكون متزوجة، هذا عدا عن التخوفات من الرفض المجتمعي.
من جانبه، قال الطبيب مشهور النعسان، استشاري الأمراض النسائية والولادة، أن الإشكالية الطبية تتمثل في عدم القدرة على تحصيل البويضات بالطريقة المتعارف عليها عند المتزوجات، في حين يمكن القيام بذلك عن طريق الناظور، غير أن عدد البويضات في هذه الحالة ستكون قليلة، أو عن طريق التجميد من المبيض وهي الأفضل، ونسبة نجاحها أكبر، لكنها مكلفة.
وأكد النعسان، أنه سيتم العمل على توفير هذه الحلول الطبية في مركز رزان في المستقبل القريب.
يُذكر أن سرطان الثدي من أكثر أنواع السرطان شيوعًا في العالم، وقد بلغ عدد الحالات المسجلة عالميًا بهذا المرض في عام 2020 أكثر من مليوني حالة. كما يُعتبر سرطان الثدي السبب الأول للوفيات الناجمة عن السرطان بين النساء، وتوفيت بسببه 685 ألف امرأة تقريبًا في عام 2020.