24-مارس-2020

ثلاثية الأجراس، وما ترنَّم خلف أفقها البعيد القريب من حَكايا، ألقت بظلال تفاصيلها على مجمل المشهد الفلسطيني في فضائه الزماني والمكاني، متعامدًا مع تطور الأحداث منذ الحرب العالمية الأولى انتهاءً بالأفق القريب، يوم اشتعلت جمرة الانتفاضة الأولى في صدور أبناء الأرض. جدلت معها عناق الأجيال في نضالها جيلا بعد جيل، لتجسد بمن نقش الزمان في ملامحهم وجع الاحتلال، وحُفر في أخدانِهم قهر الهزيمة، حين دق الوطن أجراسه فلبوا النداء.

ابراهيم نصر الله، الذي غَزَلَ في روايته (دبابة تحت شجرة عيد الميلاد، 2019) من عزيمة الفلسطيني ملحمة تتخطى الزمن، وتنتشل المكان من غُبن التاريخ، والذي أبدع في رسم الظلال اذ يستنسخ أرواحًا لها، تضاهيها فِتْنَةً بين الأزقة والحارات. والتي تدفّقت كنهر الحليب الرقراق الناصع غاسلةً معها دنس وهمجية داوود وموشيه والاحتلال، من خلال هذا التحليق الخلّاق في أروقة الذاكرة الروائية الفلسطينية.

     بدت بنية الرواية اجتماعية، وكأنها تسلّط الضوء على الموضوعات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، للحالة الفلسطينية عند تحليل المضامين   

رائعةٌ أخرى سطعت كقنابل الضوء فوق سماء فلسطين، في مسيرةِ كفاحٍ تأخذنا إلى بيت ساحور، تلك التي ابتدعت كلّ سبل النضال في وجه الاحتلال، وقدّمت معها أعظم دروس البسالة، "فكلما اشتدت الهجمات، أَعرفُ أننا أقوياء، فهجماتهم لا تتراجع إلا حين نكون متراجعين، ولا تنتهي إلا إذا انتهينا تمامًا، لا سمح الله" (ص 85)، يأخذنا نصر الله إلى قلب قرية تحولت معها الحجارة إلى صواريخ تحمل الرعب في قلوب القتلة والمغتصبين للأرض. 

ويتلاقح بين دفتيها نسيج اجتماعي، متكامل الثنايا، متناسق البنية، ينطلق من البنية النصية المعززّة بالإنتماء الأيديولوجي والجغرافي لشعب له خصوصية برزت على طول أحداثها، فأبرزت طبيعة المجتمع الفلسطيني بكل أركانه، وطبيعة علاقاته الاجتماعية الأسرية المترابطة والمتينة ما بين المسلم والمسيحي، فحين سأل أحد الجنود النمر: إنتو شو بتعملو هون؟ فأجابه: السؤال شو اللي انتو بتعملوه هون؟ هذه بلادنا، فعاد الجندي بسؤاله الوقح: انتو مسلمين ولا مسيحيين؟ فالتفت النمر إلى الصغيرة رولا وسألها: إحنا شو؟ فأجابت بفطرتها النقية وبكلمات فصيحة: قل له نحن فلسطينيون. (ص 271).

بجودة عالية

في مجتمع منغلق تحكمه عادات وتقاليد متراكمة لا يمكن خرقها أو اختراقها إلا لضرورة، شهدنا فيه على الأفراح والأتراح من زواج أو ولادة أو طقوس وفاة، اعتمدت في تفصيلها على الأدب الروائي التخيلي وإن استندت إلى الواقع، كما صور لنا مراسم العرس "بعد ثلاث ليال أمضاها أهل البلد يرقصون، ويغنون في الساحة المحيطة ببئر السيدة، التقى الرجال في بيت أهل العريس، تناولوا طعام إفطارهم، كالعادة، الطعام المكون من خبز الطابون والزيت والزعتر والعنب والتين ثم توجهوا إلى الكنيسة لاستقبال موكب العروس". (ص 26).

بدت بنية الرواية اجتماعية، وكأنها تسلّط الضوء على الموضوعات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، للحالة الفلسطينية عند تحليل المضامين، بالإضافة إلى المقدرة العميقة التي تتجلى في تصوير الروائي للمشاهد بمنتهى الحدة والدقة بإرجاع ذلك إلى احترافية التصوير البصري واللغوي التي يتفرد بها إبراهيم نصر الله بدرجات تذهل القارئ وتجعل الصورة نسقًا يتشكّل بين السطور بجودة عالية الدقة، وقفتُ معها مبهورة أمام صقل ملامح الشخصيات وخطوط تعابيرها، راسمًا معها تفاصيل مزدوجة كالحب والكراهية، والحياة والموت، الفرح والحزن، الضحك والبكاء، الوطنية ما بين التماسك والسقوط، الهزيمة والانتصار، والقهر والحرية.

كما دمجت فضاءات الحياة في الرواية ما بين العزف، والتصوير، والطفولة، والعصافير التي تغرّد فرحًا بعزف مرتا، والصلوات، وذلك التضافر العميق خدمة لنضالات الشعب الفلسطيني، سواء بتعبيرها عن الاستمرارية رغم الحصار الذي فرضه المحتل على بيت ساحور بعد رفضه الانصياع لأوامر الاحتلال وحماية حالة العصيان التي أعلنها أهل بيت ساحور، رفضًا منهم دفع ثمن الرصاصة التي يستخدمها داوود لقتلهم.

كما ويبرز جليا في البنية الروائية تعزيزٌ لوعي التمثُّلِ الاجتماعي استشهادًا بالأمثال والحكم والأغنية الشعبية وما علق في مساحاتها الضيقة من حكايات تتسع لها الذاكرة، فتصبح الحكايات أفضل وسيلة للتغلب على لزوجة الوقت الطويل، مُلقية بظلالها على مساحات متعددة من النص السردي لرواية اكتظت بالرمزية والدلالة، يورق النص من خلالها بأجمل ما يمكن أن يتخلق بين سطورها من عمق المعنى وسيميائية البعد البلاغي.

ما يحتّم علينا الإقرار بأن عملًا روائيًا بهذا المضمون إنما هو انعكاس للحياة، والفن، والعملية الإبداعية، والنمذجة المرتهنة للخواص المشتركة لأمة في مرحلة معينة، تستشف معها دقة التفاصيل والأحداث، ومعالجتها بشمولية للموروث الاجتماعي الفلسطيني المنبثق عن مرحلة بعينها، شأنه شأن ابن خلدون في دراسته لمجمل الصورة بكل دلالاتها، اللغوية والاجتماعية، والقيم والمعرفة، والأيديولوجية، ودورها في الحياة الاجتماعية بما يؤشر إلى تلازم الثقافة والتغيير الاجتماعي والوطني الذي تميز به الفلسطيني عن سواه.

فلسطين أنثى تتكئ على سواعد الأحرار

وهنا يبرز دور المرأة الفلسطينية بجدارة في أعمال إبراهيم نصر الله كما هي في واقعها المتصدر للمشهد الفلسطيني، في اشتباك إبداعي متميز في مسيرة الوجود وفاعلية المعنى، في مضمونه الأيديولوجي والتكويني الوطني، ما يعكس مدى الوعي بما يجعل حضورها يتداخل في صيرورة تشكّلِهِ، من خلال الواقع المعاش بكل تفاعلاته ومتناقضاته، ليس في حينه فقط، وإنما أيضًا في راهنه، الذي لم يتجاهله نصرالله بإشارات ناقدة واضحة، حين ردت مرتا على إسكندر رافضة ادّعاءه بأن الثورة انتهت وفلسطين ضاعت: "لا تقل كلامًا كهذا، فلسطين لا تضيع ما دمنا موجودين فيها" فأجابها: "يا مرتا يا حبيبتي، حين يقايض الثوار ثوراتهم بالوعود، يخسرون كل شيء. لا أعرف كيف قبلوا أن يقايضوا عملًا وأملًا وغضبًا وحلمًا بوعود، يا مرتا سنشتهي يومًا كنا نجوع فيه ونطارد ونسجن ونقتل، ونفضّله على يوم لا نفعل فيه شيئا سوى انتظار أن ينصفونا، يا مرتا لن ينصفنا أحد إن لم ننصف أنفسنا".(93 - 94).

ويبدو أن طمس معالم الحياة في الصورة التي جاء موشيه ليلتقطها كانت الأخطر لفرض واقع مغاير، سلاحًا أكثر خطورة من حمل البندقة، حين قال الرجل الضخم له: "أنت الآن جندي.. منذ اليوم، سيكون أمامك أن تصوّر ثلاثة أنواع من الصور لا غير: صور الطبيعة الجميلة جدًا، صور المناطق الجرداء، وصور الكيبوتسات الرائعة التي بنيناها، أما الشيء الذي لن يظهر في صورك بعد اليوم فهم العرب". في هذا الإطار كان مهمًا العروج على رواية (سيرة عين، 2019) بوصفها جدولًا تفرع من نهرٍ في إشارة إلى الدور الكبير الذي قامت به ابنة الناصرة كريمة عبود كأول مصورة فلسطينية وثّقت الحياة في فلسطين أرضًا وشعبًا وثقافة – والتي تمثل عِظَمَ دور المرأة الفلسطينية - الفتاة التي نقلت الحياة الفلسطينية كما هي وكشفت زيف الصورة التي كان يلتقطها موشيه بعينه المشوهة.

خلف إطار الصورة

كما ويميط هذا العمل اللّثام عن همجية المحتل، في التعامل مع الضحية، مستخدمًا كل الوسائل لقهرها وإخضاعها وإذلالها فاقدًا لكل إنسانيته، المتشدقة للقتل، ترتوي بوحشية الفكرة التي حاول ليفي نقلها لموشيه حين قال له: "دع ألفًا، بصورتك المتقنة يأتون، وسيتمكنون من قتل مائة عربي أو خمسمائة عربي، بدل تضييع الوقت في انتظار معركة، قد لا تتمكن فيها من قتل أكثر من اثنين أو ثلاثة". (ص 118) محاولًا بذلك استغلال كل ما يمكنه أن يسبغ عليه شرعية وجوده، بوسائل تعددت أدواتها لكسر إرادة الحياة في بيت ساحور - كممثلة شرعية عن كامل فلسطين الحياة - بازدواجية مقارنة ما بين القلم والبندقية، الكلمات والرصاصات، بين ظلمة الحبر وظلمة الموت، الكاميرا والبندقية، كما وعبر عن ذلك ياكوف والد موشيه بالقول: "إذهب وعش بينهم، سيكرمونك، أعني مجموعات العرب - كما اعتادت الحركة الصهيونية أن تطلق على الفلسطينيين – الذين يسكنونها الآن، إنهم يحترمون الغرباء، ... عليك أن تسكن في مستوطنة، أنت الآن نقيضهم، وعليك أن تبدأ العمل على طردهم" (ص 42)، إلا أنهم عجزوا بصمود أهلها وإصرارهم بالتأكيد على أن الحياة ملكًا لهم، لا يمكن لأحد أن ينتزعها منهم، يحمونها بأرواحهم حتى قبل أن تولد، وقبل أن تتخلق في أرحامها، يفرضون وجودهم مهما دَعَكَ موشيه عينيه ومهما أوهم نفسه بأن أرض فلسطين خالية من العرب، لكنهم لم يختفوا يومًا، حين تساءل: "ولكنني أراهم!" (ص 50). فراودت الحيرة سلامة في سؤاله لماري: "إن ما يحيّرني والله هو سبب هذه العداوة بين المحقق داود وبين جنين لم يولد بعد! (ص 185)، حين أوسع داود بركلاته بين فخذي بشارة، وتلك كانت الإضافة التي لا بد منها حتى لا يترك خلفه أي منفذ يخرج منه عرب آخرون سيجد عندها ابن داود نفسه مضطرًا لمقارعتهم بعد عشرين عامًا من الآن، إذا ما قُدّر عاد بشارة إلى الحياة". (ص 143).

صرخة الحياة

"قرر إدوارد أن يتسلل إلى القدس. وفي طريقه إليها لم يكن صوت تهشُّم البيانو يفارق أذنيه، حاول مرارًا استحضار معزوفات مرتا ونجح، لكن صوت ارتطام بنادق الجنود بتلك الآلة المسالمة الجميلة، كان ضربة النهاية، التي لا شيء بعدها غير دويّ الصمت". (ص 83).

فعلى امتداد صفحات رواية أسرجت ليلها في خمسة فصول خيّمت عليها ليالٍ استوسدتها "ليالي الأنس" فباغتتها ليالي الصياد لتحكم على أنفاس غسقها بليالي الموت، انتهاء بليالي الحقل إلى أن قرعت ليالي الميلاد أجراسها في سماء بيت ساحور. "لم يطل الوقت قبل أن ينزل المطر في نهايات تشرين الثاني/ نوفمبر، مطر غزير لم يجرف التراب في السفوح والوديان وحسب، بل بدا كأنه يجرف كل الوعود بوطن أكثر أمانًا، وما إن دخل كانون الأول/ ديسمبر ومطلع سنة 1937 حتى تجمد كل شيء، برد شديد، وليل أكثر سوادًا من ذلك الذي عاشته فلسطين في أي وقت مضى" (ص 92). بعد أن قبض الاحتلال على أنفاس الحياة في أوتار موسيقاهم وجزّ أعناق الطيور المغردة في نوافذهم، أصبح الصمت موحشًا، منذ أن صمت البيانو الذي كان يصدح بالحرية في عمقها الأعلى وما تعنيه من حياة، وأمل، إلى أن جاء من حمل جثته الكبيرة، كأنما ماضون به إلى مثواه الأخير، "إلا أنه وبعد أسابيع، سمعت بيت ساحور كلها، هدير محرك شاحنة هبطت من بيت لحم... كانت عصافير مرتا كلها قد تجمعت حول الشاحنة، وحينما لامس البيانو الأرض، وسمع الصغار صوت الحياة القادم من جوفه، نغمات افتقدوها طويلًا، قالت الصغيرة رولا للطفل الذي بجانبها: يعني راح نرجع نغني زي زمان؟" (ص 93).


اقرأ/ي أيضًا:

حرب الكلب الثانية: رواية خيال علمي تفتقر للخيال

حوار | أسامة العيسة: نكتب على حواف السياسة والجنس والدين

قناديل ملك الجليل.. أصل الفلسطيني حصان