يرد في المادة 50 من قانون الجريمة الإلكترونية، تقرير بتجريم كلّ من لم يبلّغ عن الجرائم الإلكترونية المرتكبة – سفاحًا أمام عينيه على الصفحات الإلكترونية التي يتصفحها بشكل يومي، وبالطبع فإن تلك الجرائم هي الجرائم المنصوص عليها وفقاً لقانون الجريمة الإلكترونية.
بعد الآن، سيكون على المتصفح العادي، غير المتخصص في القانون الجنائي، وغير المتخصص في القانون الأساسي الفلسطيني، وغير المتخصص بأيّ شيء له علاقة بالقانون، وقد يكون قد درس التجارة أو العلوم المصرفية والمالية، وقد يكون عاملًا وقد يكون ربّة منزل أو معلمة أطفال. على هؤلاء جميعًا أن يحوزوا في منازلهم، وبجانب هواتفهم الذكيّة، وبجانب حواسيبهم، ما قد نصطلح على تسميته: "الدّليل في الجرائم الإلكترونية في فلسطين"، وهو بالطبع، نسخة عن قانون الجرائم الإلكترونيّة.
في عالم "الأخ الأكبر"، على المواطن الفرد، أن يقوم بدوره على أكمل وجه في الطاعة، والتبليغ، والعداء لكلّ أعداء الدولة الداخليين والخارجيين.
وإذا كان عدم التبليغ عن المنشورات والجرائم الإلكترونية المرتكبة بحق الأمن العام وأمن الدولة الخارجي والداخلي، يعدُّ بحد ذاته جرمًا، فإنّ الإعجاب والمشاركة والتعليق على صفحات التواصل الاجتماعي، سيعدُّ من الكبائر الجرمية التي يعاقب عليها القانون. وببساطة شديدة، منذ دخول قانون الجريمة الإلكترونيّة حيّز التنفيد، فإن الفضاء الإلكتروني الذي ينتسب إليه ويشارك فيه فاعلًا أم خاملًا، كل من يخضع للسيادة القضائية للسلطة الفلسطينية، سيعدُّ بعد ذلك فضاءً محرّمًا وإلى حد ما: فضاء يتسم بالفوضى الجرمية والعصيان المدني الإلكتروني.
الجريمة تسبق القانون، والقانون يخلق الجريمة
إن معظم ما ينصُّ عليه القانون من جرائم إلكترونيّة، قد سبق وكانت جرائم دون تشريع الانتقام منها من خلال إقرار هذا القانون. فالتُّهم التي تتستر تحت عبارات: "المسّ بالسلم الأهلي"، و"المسّ بأمن الدولة الداخلي والخارجيّ"، قد تمّ تلفيقها وقد تمّ استخدامها من قبل بحق العديد من الصحفيين والكتاب في فلسطين. وما هو ظاهر، أن الجريمة بهذا الشكل، قد سبقت وجود القانون، لا لأنّها جريمة بحقّ، بل لأنها سلوك يعارض إرادة الأجهزة الأمنية. فإن ما جعل الجريمة جريمة بهذا الوصف ليس مجموعة من المبادئ القانونيّة والإنسانيّة المتفق عليها مجتمعياً، بل هو التطور في بنية الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي ترى تهديدًا في كل ما يتعارّض مع سلوكها الأمني في الضفّة الغربيّة.
وفي ذات السياق، فإن القانون بحد ذاته، يوسع من نطاق هذه الجريمة بحيث يشمل الفضاء الإلكتروني ككلّ. في عالم "الأخ الأكبر"، على المواطن الفرد، أن يقوم بدوره على أكمل وجه في الطاعة، والتبليغ، والعداء لكلّ أعداء الدولة الداخليين والخارجيين. وفي عالم "الأخ الأكبر"، الفلسطيني، على المواطن الفرد الفلسطيني، أولًا أن يُطيع، ومن ثمّ، أن يبلّغ عن كلّ ما يرى ويسمع، وأن يكون أذن وعين "الأخ الأكبر" – الأجهزة الأمنية، خاصّة حيث لا تستطيع هذه الأجهزة أن تصل. بهذه الطريقة، يكون "الأخ الأكبر"، ضميرُكْ، وعقلُكْ، واختياراتك اليوميّة والحياتيّة، واعتقاداتك اليوميّة والأبديّة، يصبح هو الإله المراقب، عينٌ لا تخفى عنها خافية وأذنٌ تسمع حتى دبيب النّمل.
يبدو الأمر دراميًا قليلًا؟ ربما. ولكن، ولنفترض أن الأجهزة الأمنية اختارت أن تلتزم التزامًا تامًا بمواد هذا القانون. وقد اختارت معجبًا عشوائيًا بمنشور ترى فيه تهديدًا للسلم والأمن الداخليين. وقامت بحبسه مدة ثلاثة شهور وغرمته ألف دينار. وفي حال اعترض أحد، فإن السلطة ومن خلال إعلانها ونشرها لمواد القانون، قد أرست قواعد أساسية: أولًا، لقد أعلن القانون بشكل واضح وصريح وعلى كل فلسطيني راشد عاقل بالغ، أن يكون قد اطلع عليه. ثانيًا إن مواد القانون واضحة بشكل لا يخفى إلا على "من تسوّل له نفسه، أو تحدّثه نفسه بالسّوء!"، وهي لذلك، ترسي يقينًا تامًا بما هي الجريمة وما هي العقوبة، ولذلك فإنها نافذة وملزمة وشرعيّة. ثالثًا، سابقًا، كان الصراع مع الاعتقال على خلفيّة الرأي والعمل الصحفي يجري بين الصحافة والأجهزة الأمنية مباشرةً، أما الآن، فإن التهم الموجهة لن توجه عن طريق ضابط في المخابرات أو الأمن الوقائي، بل توجه عن طريق المحكمة ومن خلالها، وبذلك، سيجري الصراع الذي بالطبع سينتهي كما ينتهي دومًا لصالح السلطة، وفقًا لأحكام القضاء وفي قاعات المحاكم.
إعجاب واحد يكفي كي تسجن عامًا.. ما رأيك؟
من طبائع المعاقبة التي يحدث عنها أحد المفكرين، أن يكون العقاب لا يعادل الجريمة وحسب، بل أن يفوقها في إحداث الضرر والإزعاج. وقد عَلِمَ هذا مشرّعو الأجهزة الأمنية عن قصدٍ أو دون قصد. يشرعن قانون الجريمة الإلكترونية انتقام الأجهزة الأمنيّة – السلطة بما هي تمثل سلطة الدولة، من كل من يعارض ويتجرأ على هيبة الدولة، حتى وإن كان هذا التجرؤ عبارة عن إعجاب واحد بمنشور أو حتى عدم التبليغ. هذا السلوك البسيط جدًا، الذي بالعادة لا يلاحظ حتى عند صاحبه أو صاحبته، والذي مع اعتياد وسائل التواصل الإجتماعي يصبح عفويًا وغير مدركًا، يحاسب صاحبه عليه بما يفوق الستة أشهر سجنًا والغرامة ألف دينار وغيرها من الأمور المزعجة والمضرة كالانقطاع عن العمل أو الدراسة بسبب هذه الإجراءات.
ويكفي أن نتصور الافتراض السابق، يطبق على الأرض، حتى نستطيع تصور الهلع الذي سينتشر بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من الفلسطينيين، الذين، سيسألون أنفسهم أسئلة بسيطة، أهمّها: هل يستأهل الأمر هذا كله؟
رواد مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة أولئك المؤثِّرون، هم مؤثِّرون بالأساس لأنهم يستطيعون حصد الإعجابات الكثير وإدارة حوارات مؤثرة تصنع أحيانًا الرأي العام فلسطينيًا، وقد فهم مشرّعو الأجهزة الأمنية هذه المسألة ولذلك، لم يقتصر القانون على معاقبة صاحب المنشور بقدر ما كان مهدِّدًا لأولئك المتفرّجين. الآن ندخل عصر العقاب الذي لا دخل له بالجريمة، عصر الأخ الأكبر الذي يتدخل بأدق التفاصيل اليوميّة في حياة المواطن العادي.
وأخيرًا، فإن قانون الجريمة الإلكترونية لم يكن قانون معاقبة بقدر ما هو قانون يشرعن المراقبة و"يفضحها" على الملأ. فبحسب المادة 32 من القانون، يلتزم مزوّد الخدمة بتقديم المعلومات عن المشتركين والسماح لمن يملك صفة الضابطة القضائية بحسب القانون وهم كثر من وزارة الاتصالات والأجهزة الأمنية وغيرها من الجهات، بالوصول لهذه المعلومات من أجل "ضبط الحقيقة والمتّهم متلبّسًا"، إما بالوصول لمواقع محجوبة عن طريق برامج تتجاوز الحجب، أو بالإعجاب بالمنشورات أو بنشر المنشورات التي تمسُّ بهيبة وأمن الدولة. هذا هو "الأخ الأكبر"، يفضح نفسه ويعلن عن نفسه صراحةً، أنه يراقبُ أدقّ تفاصيل السلوك الإلكتروني لمواطنيه ورعاياه، فالمراقبة كانت دائمًا وأبدًا، صنو المعاقبة في الأنظمة السلطوية.
اقرأ/ي أيضًا:
قانون الجرائم الإلكترونية: السلطة تشرعن قمع الحريات