09-يوليو-2021

70 يومًا وأهالي بيتا يقاتلون لطرد المستوطنين عن جبل صبيح (JAAFAR ASHTIYEH/Getty)

يُصبّح أهل "بيتا"  على "جبل صَبيح" دون غرباء يعكرون صفوة صباحهم على قمته، "فصَبيح" كما قال ابن البلدة فواز حمايل من الصَّباح، وموقعه المقابل للشمس وبدايات إشراقها عليه، فالناس في البلدة كانوا يقولون "صبحنا بالجبل"، فسمي بجبل الصَّباح من الصُّبح.

ويضيف أن بعض الروايات الشفهية الموجودة في الأرشيف العثماني أن زوجة صاحب الجبل -محمد عديلي/ أحد المُلّاك في البلدة- كان اسمها صُبح عثمان العلايا، ويبدو أنّها ورثت الجبل عن زوجها بعد وفاته، وتغير الاسم ليكون "صَبيح" بعد ذلك.

  تواصل بيتا مقاومتها الشعبية بعد أن أخلى مستوطنون قمّة جبل صبيح مع الإبقاء على البيوت التي شيدوها، بناءً اتفاقهم مع حكومة الاحتلال 

أقام المستوطنون قبل نحو تسعة أسابيع بؤرة "افيتار" الاستيطانية على قمّة الجبل، في محاولةٍ ليس فقط لسرقة الأرض بل أيضًا الرواية الشفهية للناس حول معنى اسم الجبل ومنحه بدلًا من ذلك اسم المستوطن "افيتار بوروفسكي"، الذي قتل عام 2013 "تخليدًا لاسمه". لكن أهل "بيتا" لم ينسوا أبدًا ما حل بهم من اعتداءات للمستوطنين خاصةً في نيسان 1988 وما بعدها في جبل "العرمة" والآن على "صَبيح"، فاستشهد على قمة الأول في 2020 الشاب إسلام دويكات والفتى محمد عبد الكريم حمايل، وعلى الثانية، عيسى برهم، وزكريا حمايل، ومحمد سعيد حمايل، وأحمد زاهي بني شمسة، وبالقرب منه، وعلى الجهة الأخرى؛ طارق صنوبر من بلدة يتما المجاورة.

(محمد، أحمد، زكريا، عيسى)، شهداء بيتا الأربعة على جبل صبيح (تصوير: بثينة سفاريني)

اقرأ/ي أيضًا: الاستيطان في مشاريق نابلس: قصة بدأت باكرًا

يقول شاب من مواليد 1988 وهو من وحدة "الكاوشوك"- كان هناك أسلوبٌ مختلف في مقاومة "بيتا" تجاه إنشاء البؤرة، منها إشعال إطارات السيارات، واستخدام الليزر ومكبرات الصوت- إنه وفي فترة أحداث "العرمة"، نصب مجموعة من المستوطنين سارية لعلم الاحتلال على "صَبيح" وخيمة سهروا فيها لجسّ نبض بيتا، لكن في نفس الليلة هجم أهل البلد على المستوطنين وأخرجوهم، ونصبوا سارية لعلم فلسطين، لكن هذه المرة استغل المستوطنون العدوان على قطاع غزة في أيار/ مايو الماضي وشهر رمضان، ووضعوا "كرفانات" كتثبيت وجود.

ويكمل الشاب أن "بيتا" أصبحت مثالًا للوحدة، فالناس وضعت الرايات الحزبية جانبًا، وأي شخص يرفع راية ينتقد من أبناء فصيله قبل الفصيل الآخر. مضيفًا أن الناس أصبحت يدًا واحدة، فحتى الأولاد "إلى احنا بنسميهم الشباب المدللين بتلاقيهم قاعدين مع الشباب فوق، حتى لو بحمل كاوشوك وبولع".

الأطفال والفتية يصنعون الآن ذاكرتهم

لم يعد هؤلاء الصغار أو حتى الشباب يسمعون من آبائهم ما حدث في البلدة في نيسان/ ابريل 1988، من هجوم للمستوطنين وهدم لبعض البيوت وإبعاد ستة مواطنين إلى جنوب لبنان واستشهاد ثلاثة آخرين، بل أصبحوا مشاركين الآن، فاعلين في صناعة الذاكرة المقاومة للاحتلال ومحاولته سرقة المشهد الفلسطيني.

الطفل محمد سعيد حمايل، استشهد على جبل صبيح في 11 حزيران 2021 (تصوير: بثينة سفاريني)

يمكن ملامسة ذلك في قصة الشهيد محمد سعيد حمايل، الذي استشهد دفاعًا عن "صَبيح" في 11 حزيران/ يونيو الماضي. ويمكن قراءة رغبته بالشهادة ورفضه للمشاركة المعتدلة، فإما مشاركة واضحة وبارزة وإما فلا. يقول سعيد حمايل والد الشهيد محمد، إنه وفي يوم استشهاد محمد عبد الكريم حمايل في أحداث "العرمة" في 11 آذار/ مارس 2020، كان مع نجله محمد على الجبل، ولم يجده حين نزلا من السيارة، فقد كان "يحاجر" مع الشباب.

ويضيف، "طبعًا صار يتأثر محمد في الأحداث هاي... صار يشارك، يعني يشارك وبإقدام، يعني مش إنه يشارك بصفوف خلفية أو فعاليات، يعني بالمواجهات، مشاركة فعلية، تأثر بشكل بشكل قوي، من العرمة لليوم، يعني كل كتاباته على الفيسبوك عن الشهدا، عن الاستشهاد، عن حب الوطن والانتماء، أحد كتاباته "ذات يوم سأغمض عيني وينتهي كل شيء"، يعني كلها كلها بتدل على إنو كان متأثر بشكل بشكل قوي".

 بدأ الطفل محمد بتجهيز عائلته لخبر فقدانه، مثل تجنّب الجلوس معهم وقت الغداء، والحديث معهم عن رغبته في الشهادة 

بدأ محمد بتجهيز عائلته لخبر فقدانه، مثل تجنّب الجلوس معهم وقت الغداء، والحديث معهم عن رغبته في الشهادة، فيقول سعيد محمد حمايل إنه وفي أحد نقاشات محمد مع أمه حول الاستشهاد وأنه سيكون شهيدًا، انفعلت والدته بسبب غريزتها بأن ليس كل من قال إنه سيستشهد ربنا سيقبله، انفعل محمد "كلها (قل لها) ليش ربنا ما يكبلني (يقبلني) أنا صادق معاه، أنا إلي بطلب الشهادة وصادق بشهادتي وانتمائي صادق".

اقرأ/ي أيضًا: مدرسة بيتا النّضالية

حين ارتقي الشهيد الثاني على جبل صبيح، زكريا حمايل، قال محمد (الشهيد الثالث) لوالده: "أنا حملت زكريا من الصرح للمقبرة"، وسأله "بتعرف شو كنا نهتف؟ أكثر هتف كنا نركز عليه"، وأتبع سؤاله بالإجابة: "بكينا نقول يم (يا أم) الشهيد نيالك يا ريت امي بدالك (مكانك)"، عرف الأب سعيد حينها أن استشهاد نجله مسألة وقت.

كل كلمة كان يقولها محمد، تُشعر سعيد أن موعد الرحيل اقترب، مثل حديث محمد لأخيه، بأنه لم يكن شهيدًا هذه الجمعة، وأنه سيكون في الجمعة القادمة، وعندما خرج من المنزل وقال لوالده أنا "بروح" فهم الأب أن ابنه ذاهب بلا عودة.

لم يرضَ محمد بفكرة الاعتدال بمواجهة الاحتلال، من أجل المحافظة على إرث عائلة قدّمت شهيدين في لبنان في 1976، وهما والد سعيد وأخوه، كما استشهدت شقيقة سعيد في 1985.

يقول سعيد، إن العائلة حافظت على أسماء شهدائها، فسمى هو محمد ونايف على اسم والده وأخوه الشهيدين، وقد سمى نايف واثنتين أو ثلاثة من أخواته محمد، وحفيد نايف من ابنه باسل على اسمه.

وبعد الأحداث التي شهدتها "بيتا" في نيسان 1988 ومقتل مستوطنة على يد مستوطن آخر، تم اقتحام البلدة وهدم منازل فيها، من بينها منزل عائلة سعيد، فعاش مع والدته في خيمة قُدمت من "الصليب الأحمر".

 "يعني لو بنستشهد إحنا رح نضل نقاوم".."لازم يعني مندشرش الجبل، مش رايحين ندشره، أصلًا آخرتهم رايحين يطلعوا" 

عندما ذهبت لإجراء مقابلة ثانية في بلدة "بيتا"، شاهدت فتيين من أصدقاء محمد، سألت أحدهما عن سبب ذهابه لجبل صَبيح، قال إنه يدافع عن عرضه ويسير على نهج محمد سعيد، "يعني لو بنستشهد إحنا رح نضل نقاوم". وقال الآخر، "لازم يعني مندشرش الجبل، مش رايحين ندشره، أصلًا آخرتهم رايحين يطلعوا".

قلادة عليها صورة الطفل محمد حمايل، وضعها أحد أصدقائه على صدره (تصوير: بثينة سفاريني)

وقد كان ذلك أيضًا رد شقيق شهيد الجبل زكريا حمايل، حيث قال "لو نستشهد تشلنا (كلنا)، يعني نروح تشلنا عادي بالنسبة إلنا، إشي عادي هاظ (هذا)، إشي طبيعي، يعني ما بغيّر أي إشي".

ذاكرة محفوظة.. نيسان 1988

ولمعرفة ما حدث أيضًا من قصص في نهاية الثمانينيات في البلدة، سألنا ساري حمايل، الذي صدر بحقِّه مع خمسة آخرين قرارٌ قطعيٌ بالإبعاد عن البلاد. فقال إنه في 19 نيسان/ ابريل 1988، تم الإبعاد إلى جنوب لبنان، ويضيف، "في سنة 1988 في 6 نيسان/ ابريل، دخل المستوطنون من الجهة الشرقية لقرية بيتا، طبعًا من مستعمرة "آلون موريه"، كان على رأسهم شخص يدعى الدوبي، هاظا (هذا) معروف متطرّف، وبصفة ناشط سياحي على حسب الدعاية أو الرواية تبعتهم".

ويكمل أن المستوطنين التقوا بموسى داهود (داوود) وأطلقوا عليه النار، ما أدى لاستشهاده على الفور، وبعدها تم التداول بين المزارعين والتعميم على البلدة، بوجود شهيد واقتحام للمستوطنين من الجهة الشرقية.

بعدها قامت أخت الشهيد موسى في وسط البلد، بضرب (الدوبي) بحجر على رأسه، وكان أهل البلد تجمّعوا بكثرة حينها، وحاول الشبان أخذ سلاحه، لكن خرجت رصاصة أدت لقتل مستوطنة، وفي تلك اللحظات استشهد شاب آخر يدعى حاتم عند محاولته أخذ سلاح (الدوبي). وبعد الهجوم الذي حصل على البلدة والاعتداء على مستوطنين اثنين، هرب الشباب إلى أطراف البلدة، لاسيما بعد دخول جيش الاحتلال بأعداد كبيرة، وفي اليوم التالي 7/4 استشهد المواطن عصام عبد الحليم داود بني شمسة في منطقة العرمة، وفق ساري حمايل.

    "بيتا" أصبحت مثالًا للوحدة، فالناس وضعت الرايات الحزبية جانبًا    

ويضيف أن الاحتلال حينها كان يبحث عن أسماء معروفة أو لهم نشاط سابق، وتم اعتقاله في 10 نيسان/ ابريل ونقله إلى المدرسة الثانوية في "بيتا" للتحقيق، وهناك عرف بوجود قرار بالإبعاد مع خمسة آخرين وهم: إبراهيم خضر بني شمسة، وعماد الجاغوب بني شمسة، ومصطفى حمايل، وناجح سعادة دويكات وعمر محمد سعيد داهود بني شمسة.

وعند وصولهم إلى جنوب لبنان، دون تنسيق مع الجهات المعنية، طلب الرئيس الراحل ياسر عرفات ترحيلهم إلى تونس، وبعدها تنقّل حمايل بين العراق والأردن.

لم يدخل ساري حمايل مع العائدين في عام 1994 بسبب وجود رفض أمني عليه، وكان تاريخ عودته في 27 أيار/ مايو 1996 كعضو مراقب في المجلس الوطني، وبعدها بقي في البلاد وصدرت له هوية عائد.

وفي بداية فترة الإبعاد لساري كانت زوجته تعاني هي الأخرى من حادثة اعتداء المستوطنين، ومن ثم هجوم قوات الاحتلال عليهم وهدم منزل العائلة، وعاشت الزوجة في خيمة مع ابنتيها.

تقول الزوجة إنه وبعد أن هدم الاحتلال المنزل لم يسمح لها بالذهاب إلى منزل أهلها، لأن زوجها كان مطلوبًا حينها، فلم تجد ملجأً إلا غرفة موجودة بالمقبرة وبقيت فيها قرابة ثلاثة أيام، وجلست في خيمة "الصليب" قرابة الشهر أيضًا.

وفي تلك الأثناء عرفت الزوجة أن ساري حكم عليه بالإبعاد، وفي أجواء معقدة سمح لعائلات المبعدين بتوديع بعضهم البعض لمدة زمنية قصيرة.

 نساء بيتا ساهمن في دعم الشبان في الأحداث الأخيرة، من خلال توفير الدعم لهم من وجبات طعام وماء 

منذ 1988 ولغاية أحداث "صَبيح" لم يختلف دور النساء في مساندة الشبان ضد اعتداءات المستوطنين. فتقول آمال بني شمسة التي ساهمت بدعم الشباب في الأحداث الأخيرة وغيرها من نساء البلدة، في توفير الدعم لهم من وجبات طعام وماء، "شو ما قدمنا، بالنسبة إلنا إحنا نساء بيتا حتى لو قدمنا ولادنا وحتى لو قدمنا أغلى ما نملك ما بنكون اموفيين حقهم للشباب إلي على الجبل".

وتكمل، "إحنا بالنسبة إلنا نساء بيتا ممكن كانت بالبدايات بتخاف على ولادها، بس حاليًا أطفال (الببجي) همي إلي رح يغيّروا مسير المقاومة"، مفتخرة أن نجلها الوحيد يخرج بين الشباب للجبل.

ومع استمرار المقاومة الشعبية في "بيتا"، أخلى المستوطنون البؤرة مع الإبقاء على البيوت التي شيدوها، وفق اتفاق بين حكومة الاحتلال والمستوطنين، تمهيدًا لإجراء خطوات استيطانية في المنطقة لاحقًا. لكن كما قال الشاب في وحدة الكاوشوك" والذين يقع على عاتقهم إبقاء الإطارات المطاطية مشتعلة، إنّ "بيتا يعني علمتهم درس بالـ 88، فأنت جاي ع بيتا وين؟ بيتا أكبر منك".


اقرأ/ي أيضًا:

المقاومة جدوى مستمرة: بيتا نموذجًا

الإرباك الليلي: جهود بيتا نهارًا يدفع ثمنها المستوطنون ليلاً