خلال هذه الساعات التي تسبق دخول النهار ليوم الثامن من آذار، تتفتق شعاراتٌ فلسطينيةٌ مستهلكةٌ تمامًا، بَنَتها سنواتٌ من الإهمال الحقيقي للقراءة العميقة لسؤال المرأة، إهمالٌ ملأ بيانات الحكومات والأحزاب بالشعارات الرسمية الفارغة عن "حارسات النار المقدسة" و"شقائق الرجال" و"حرائر" النور.
وفي اليوم العالمي للنساء، يأتي السياسيون الفارغون ويتكئون على محمود درويش في القصيدة التي يقول فيها: "الشهيدة بنت الشهيدة.. بنت الشهيد.. وأخت الشهيدة.. وكنة أم الشهيدة"، ويصدرون بياناتهم بشعارات أن "المرأة الفلسطينية، شقيقة الشهيد، زوجة الأسير، أخت الجريح، بنت عم الفدائي"، وفي كل الأوصاف تظل المرأة غير مستقلة عن رجل يحملها معه في المعنى.
كل ما يقال عن فلسطين في "صدارة الدول" في قصة المساواة هو محض كذبة خطابية فلسطينية مثل باقي كذباتنا البيضاء
وتأخذ هذه الرمزيات الخطابية أشكالاً من فعاليات التنميط، مثل التقاط الصور أثناء توزيع وردٍ من أرخص الأنواع على الزميلات الموظفات، أو إهدائهن طناجر وصواني بايركس وقشارات بطاطا ومفارم لحوم، وبنفس المعنى الوارد في الفقرة السابقة الذي يمر إما بوصف النساء عبر إلحاقهن بأوصاف الرجال، أو عبر اتباعهن لأدوار في خدمة الرجال.
اقرأ/ي أيضًا: نساء يعرقلن البلاد
وخارج هذا الخطاب الرمزي الكاذب، نقف عراة تمامًا أمام إحصاءات وجود النساء في قوة العمل والاقتصاد والرواتب والمناصب العليا والدنيا والمشاركة السياسية.
وكل ما يقال عن فلسطين في "صدارة الدول" في قصة المساواة هو محض كذبة خطابية فلسطينية مثل باقي كذباتنا البيضاء، والإحصاءات الرسمية تظهر ذلك، فالنساء يشكلن 29% من وظائف القطاع العام، و5.8% من عدد سفراء فلسطين في العالم، و4.4% من أفراد الشرطة و31% من أعضاء مجالس الطلبة و18 % من عدد القضاة في فلسطين، و19.5% من عدد العاملين في النيابة العامة، و29% من الزميلات في سجل عضوية نقابة الصحفيين علما أن نسبتهن على مقاعد الدراسة في كليات الإعلام تفوق 65%.
هذه أرقامٌ من الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وليست أرقامي، وصدرت في كانون أول/ديسمبر 2018. والأرقام بعيدًا عن قيمتها أو عدم قيمتها هي مدعاة للتفكير بتعديلٍ تنمويٍ وثقافيٍ فلسطينيٍ ملح، ملح للدولة التي ينتظرها كل العالم لتقدم نموذجًا أعلى من نموذج الاحتلال.
طيب ماذا سنكتب في بيانات الثامن من آذار هذا العام؟
أقترح أن تصدر كل وزارةٍ إحصاءً شفافًا عن أرقام المرأة والرجل في وظائفها ورواتبها وموازنتها العامة، وليس الوزارات فحسب، بل تكتب الشركات والصناديق الاستثمارية والمؤسسات المالية والبلديات البيانات ذاتها، لنعترف ونتكاشف ونخيط أثوابنا من دون تمويل خارجي هذه المرة، والعملية ليست صعبة بل بحاجة لإيمان عميق بأدواتنا الداخلية.
وربما تخطو الجامعات والمستشفيات والكليات والمعاهد العامة والخاصة والمؤسسات الإعلامية الخطوة ذاتها وتتعهد بالتعديل.
لا أبحث هنا عن تقديسٍ لنوعٍ اجتماعيٍ على آخر، وأنتظر اليوم الذي سننتقد الأنثوية إذا زادت عن حدها
في النقابات أيضًا والاتحادات ليس الأمر صعبًا، مراجعةٌ جريئةٌ لسجل العضوية، ونضع إصبعًا على الرقم وإصبعًا آخر على الحل المطلوب لإحداث ثقافةٍ وطنيةٍ بديلةٍ حديثةٍ وفاعلةٍ واستثنائيةٍ، وتضع فلسطين في مقدمة المجتمعات الزاهرة والمتقدمة رغم جروح الاحتلال والفقر وضعف التنمية.
ماذا لو صدمنا أنفسنا بأنفسنا وأصدرنا إحصاءاتٍ عن الصيدلانيات والصحفيات والمهندسات والمحاميات والمعلمات والممرضات المدفونات في أرقام البطالة، النساء اللواتي يُعلْن أُسَرًا، والنساء في المصانع والمستوطنات والمهن مسحوقة الرواتب مثل التنظيف ورياض الأطفال والزراعة.
لا أبحث عن عدد، فالعدد مخادعٌ ولا يضمن لنا التعبير عن قوة المفهوم وتجذر المعاني، ولكنه حتمًا يؤشر إلى مستوياتٍ قد تجعلنا نخطط ونبني ونطلق سياساتنا العامة بالاتجاه السليم.
ولا أبحث هنا عن تقديسٍ لنوعٍ اجتماعيٍ على آخر، وأنتظر اليوم الذي سننتقد الأنثوية إذا زادت عن حدها، والنسوية إذا تحولت إلى علاقاتٍ قوةٍ قسرية، وسيسرني جدًا أن أكتب ضد هيمنة نسوية هنا أو هناك، ولكن الآن وتحت هذا الانكسار فإننا نبحث عن عدالةٍ لا تمييز، وعن تضامن مع ضحايا فقرٍ وقهرٍ لا عن سكوت على سكوت.
يا الله يسر لنا ثامن آذار مختلفًا هذا العام.
اقرأ/ي أيضًا:
سقط التعليم وزفت الطفلة عروسًا