لم تكن تعلم أن اليوم هو آخر يوم في حياتها، وأنها لأخر مرةٍ ستمسك مقبض الباب، ستنزل درج العمارة، ستنتظر صديقتها ثلاث دقائق، ستتصل بها مستفسرةُ عن مكانها، ستُنهي المكالمة قبل أن تبدأ لأنها لمحتها قادمةً من بعيد. تقول لها "صباح الخير" لآخر مرة بينما تضع هاتفها المحمول في الحقيبة. شمس الثانية عشر ظهرًا لن تلمس وجهها غداً، هي لا تعرف ذلك والشمس لا تعرف أيضًا.
تستيقظ جثتها كل صباحٍ فتجد أن الحياة كما تركتها لم يتغير بها شيء. فوجئت أن شمس الثانية عشر ظهرًا لم تفتقدها وأنها مستمرةٌ في عملها الدقيق بالتسبب بأوجاع الرأس وتغيير لون الجلد. فوجئت أيضًا أنها لا تستيقظ في سريرها بل تستيقظ كل مرة في مكان غريب. استيقظت مرةَ في شارعٍ قريب من جامعتها، ومرة وجدت نفسها في استوديو أخبار، ومرة في بيتٍ غريبٍ كان أهله يترحمون عليها بينما يقلبون صورها على هواتفهم المحمولة، سمعتهم يدعون بالمرض والعذاب والفقر على من أنهى كل هذا الجمال، ومن يومها عرفت أنها حتمًا لم تمت ميتة عادية، أحدٌ ما فعل ذلك.
ظلت أرواحهن عالقة في شوارع بلادٍ لن تنعم بالهناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي ما دامت أوجدت عذرًا للقتل إذا كان المجرم رجلاً وكانت الضحية امرأة!
حسناً لن تبكي هذه المرة. عليها أن تجد طريقةً للتخلص من هذه المتاهة. لطالما أحسنت التصرف كفتاة؛ حتمًا ستجيد التصرف كجثة. تتذكر أنها شاهدت مسلسلاً قديماً يسمى “Ghost Whisperer” تدور أحداثه حول قصص الموتى غير المنتهية، حول الأرواح الحزينة والغاضبة التي تظل عالقةً في عالم الأحياء غير قادرةٍ على الانتقال إلى عالمها لأن لها حقوقًا لم تؤخذ وقصصًا لم تُختم. فما هي قصتها غير المختومة إذًا؟ لماذا ترى كل شيء ما عدا لحظاتها الأخيرة؟ ولماذا بدأت مؤخرًا برؤية جثثٍ كثيرة لنساء مطعونات بسكاكين في الظهر و الصدر، نساءٍ مخنوقاتٍ بحبال حول أعناقهن وعلى وجوههن وأجسادهن آثار أيادٍ غليظة، نساء قتلتهن رصاصة في الرأس، ورغم أن رصاصة واحدة كانت كافية لتنفيذ المهمة إلا أن القاتل ألحقها ودون حاجة بالمزيد؟
اقرأ/ي أيضًا: كيف أفسدت السياسة قدرتنا على العناق؟
هؤلاء النساء مثلها يبحثن عن خاتمة قصصهن. أو كما جاء في المسلسل فإن لديهن مهام لم تكتمل، وعليهن إنهاءها قبل أن يخرجن من باب الحياة إلى باب ما بعدها.
أكوامٌ من القصص الحزينة باتت بإمكانها رؤيتها في شوارع البلاد. النساء الميتات بدأن يتقيأن قصصهن، لا أحد من الأحياء يرى القيء ولكنهم يشعرون بالضيق إذا مروا بجواره، بات الأمر أشبه باللعنة. السعادة لا بركة فيها، المال لا يكفي، ومسافاتٌ واسعةٌ تفصل بين أناسٍ يعيشون تحت سقفٍ واحد، والبلاد من خراب إلى خراب.
الأمر مرعب صحيًا وعاطفيًا، أن تتكدس هذه القصص لنساءٍ مقتولاتٍ غض المجتمع الطرف عن القاتل وتسامح معه فظلت قصصهن بنهاياتٍ مفتوحة، وظلت أرواحهن عالقة في شوارع بلادٍ لن تنعم بالهناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي ما دامت أوجدت عذرًا للقتل إذا كان المجرم رجلاً وكانت الضحية امرأة!
أربكها وجود الكثير من جثث النساء، أعجبتها الرفقة نعم ولكنها أرعبتها، فهناك نساءٌ عالقاتٌ منذ سنوات، هي التي كانت تظن أنها مسألة أيام على الأكثر وتنتقل إلى عالم الراحة!
زال خوفها مؤقتًا وهي تقرأ يافطة عن مشروع تعبيد شارع جديد، استبدلت الخوف بضحكٍ هستيريٍ وهي تحاول ساخرة أن تفكر مثلما تفكر الحكومة، "هذا إذا كانت تفكر" قالتها وانفجرت بالضحك، ثم حاولت تقليد صوت الحكومة متحدثة عن مشروعها الجديد للنهوض بالبلاد من خلال تنظيف الشوارع، تعبيدها من جديد وتحديث إنارتها، تزويدها بحاويات قمامة وإنشاء الأرصفة الآمنة للمشاة، وحث المواطنين على الحفاظ على النظافة مستخدمةً عبارات أخلاقية ودينية ووطنية.
انفجرت كل الجثث بالضحك وأخذن يراقبن العمال ويرفعن أقدامهن وقصصهن عن الطريق حتى لا يعرقلن عمل الجرافات.
اقرأ/ي أيضًا:
هل تقرأ الحب على أطفالك قبل النوم؟