على عتبة المدرسة، أُعلِن أن كتاب داليا قد كُتبْ، وبعد أيام من مغادرة المحكمة رفعت كتبها المدرسية وألعابها في ركنٍ مُهمَلٍ بإحدى زوايا غرفتها، لتُفسح مجالاً لإعداد "جهازها" قبل أن تُزف إلى "القفص الذهبي". تركت ابنة الـ16 سنة كل أحلامها جانبًا ظنًا منها أن "الحلم الأبيض" وهو أعلاها قد اقترب منها، فصار شغلها الشاغل تلك "اللحظات" التي سترتدي فيها الفستان وتطل به طلة بهيّة وتلتقط صورًا فيه كعارضات الأزياء على مواقع الإنترنت.
كانت داليا أبو جامع تحلم كأي فتاة بأن تكمل تعليمها وتجتاز الدراسة الجامعية ثم تختار شريك حياتها، إلا أن تقدم العديد من الشبان لخطبتها وهي في المدرسة، ثم موافقة أهلها وإقناعهم السريع لها اختزل كل هذه الأحلام.
رفعت داليا كتبها المدرسية وألعابها في ركنٍ مهملٍ بإحدى زوايا غرفتها، لتُفسح مجالاً لإعداد "جهاز العرس"، تركت المدرسة وتفرّغت لحملها
اليوم وبعد عام أصبحت فيه القاصر "أُمًا"، تتمنى بأن "تعود بها الأيام إلى الوراء لتقضي وقتًا أكثر مع طفولتها وصديقاتها في المدرسة، وأن تعود "للنوم والاستيقاظ متى تشاء" كما قالت وهي تبوح بتجربتها لـ الترا فلسطين.
اقرأ/ي أيضًا: في غزة.. محامون يزوجون قاصرات بعيدًا عن المحاكم
داليا من خان يونس تعتبر نفسها "تزوجت عن حُب"، لكن نبرة الطفولة واضحة في صوتها عندما تتحدث، تقول: "خطبني أكثر من مرة وكان يحبني ووافق أهلي كونه لا عيب فيه يعني كامل مكمل. وافقت وكنت في إجازة الصيف صف أول ثانوي، ومع بداية الدراسة السنة الماضية عرفوا أني خطبت، تغير الكل وفي كثير من المواقف كانت الإدارة تلاحقني، مثلًا في مراجعتي على لبسي أو أي شي، كانوا يحسسوني أنني عن غير الطالبات".
النظرة إليها كفتاة مرتبطة بشاب جعلها تحت الرقابة، ظنًا بأنها قد "تُفتّح الطالبات على أشياء من المبكر عليهّن معرفتها"، والمقصود هنا تفاصيل الحياة الزوجية. تُعلق على ذلك قائلة: "كانت عدد من صديقاتي يسألنني كثيرًا عن طبيعة علاقتي بخطيبي وكيف الخطوبة وما شابه، وهذا ما جعل الإدارة تحذرني كثيرًا".
الأجواء السلبية سابقة الذكر جعلت دالية تغادر المدرسة بعد زواجها إلى غير رجعة، هذا بالإضافة إلى حملها بطفلها الأول. تصف تلك اللحظات، "تفاجأت بحملي! كان الشيء غريبًا بالنسبة لي، وهذا أرغمني على ترك المدرسة لأن صحتي تراجعت وأصبحت أعاني كثيرًا".
ضجيج المسؤولية وحلم العودة
في عامٍ واحدٍ تحوّلت حياة داليا إلى "ضجيج"، حتى أنها في كثير من الأوقات لا تحسن التصرف مع طفلتها، حتى أنها تقول: "نفسي أبعد عن الكل فترة طويلة وأجلس مع نفسي بهدوء أو مع صديقة لي".
كابوس الزواج المبكر، بعد تراجعه عقدًا من الزمن في قطاع غزة، عاد ليلاحق القاصرات تحت مبررات ثقافية واجتماعية واقتصادية، وقد تكون سياسية أحيانًا. لكن في النهاية هو جُرم في حق الطفولة، خاصة وأن القطاع شهد في العامين الماضيين تزويج فتيات ما بين عمر 12 إلى 18 عامًا، وفق ما تؤكد إحصائيات رسمية.
كابوس الزواج المبكر، بعد تراجعه عقدًا من الزمن في قطاع غزة، عاد ليلاحق القاصرات تحت مبررات ثقافية واجتماعية واقتصادية
نورة حمدان من مدينة غزة شاهدة على هذا الجرم، إذ تزوجت وهي بعمر الرابعة عشر والنصف، عندما كانت في الصف الثالث الإعدادي، وأُرغِمت على ترك التعليم. وهي اليوم تستنجد بالطلاق على عتبات المحاكم للتخلص من هذه الجريمة، بعد سنة واحدة تذوقت فيها ألوانًا من العذاب على يد زوجها وأجهضت خلالها حملها الأول.
اقرأ/ي أيضًا: غزة: زوجات مغتربين بين تضييق الأهل ونار الشوق
تقول نورة لـ الترا فلسطين: "كان أحد معارف أخي الكبير وعمره 29 سنة، ضغط عليّ وضعي عند أهلي والحالة الصعبة للقبول به، وأول ما تزوجت ألبسني خمارًا أسود بأسود فقبلت غصبًا عني. لكن لم تكن الحياة التي يعيشها أي بشر، صار يضربني على أقل شيء ويشك في أقل شيء أصبحت حياتي عشرة أيام عند أهلي ويوم عنده".
هربت نورة من تسلط الأخ الكبير لتقع ضحية ما تصفه "اغتصابًا حلال"، ولا تعتبره زواجًا، مضيفة، "كان يعاقبني على أقل شيء. لا يعطيني مصروف ولا شيكل، حتى أي مشوار كنت أمشيه مشي وأجهضت حملي من بدايته بسبب ذلك".
كانت نورة من أوائل الطلبة قبل تزويجها، صُدمت حينما وجدت نفسها حامل، تصف مأساتها: "شعرت بخوف كبير، أنا أشعر بأنني طفلة فكيف يكون بداخلي طفل مثلي؟". كل العذابات التي تذوقتها نورة دفعتها لاتخاذ قرارها الأول في حياتها وهو الطلاق، واجهت والدها قائلة: "سأتنازل عن كل شيء لا رجعة لي أبدًا".
قضايا طلاق في محاكم غزة لقاصرات وُلدن بعد عام 2000، وكلهن لم يقضي على زواجهن أكثر من سنة ونصف
المحامية سهير البابا، تترافع عن عدد من القاصرات المتزوجات أمام المحاكم بغزة، تقول لـ الترا فلسطين: "للأسف اليوم نتابع في المحاكم قضايا عدد من القاصرات بعضهن من مواليد عام 2000 وحتى مواليد أكثر من ذلك، وكلهن لم يقض على زواجهن عام لعام ونصف".
وتؤكد البابا صعوبة التعامل مع هذه القضايا خاصة مع وجود ضغوط عائلية على هؤلاء القاصرات، "فبينما يتم رفع القضية تتدخل جهات لإعادة الفتاة لزوجها، وما نلبث بعد أيام ليست كثيرة إلا وقد عدْن للمحكمة لاستئناف رفع القضية بعد خلافات، وهذه مشكلة بحد ذاتها".
اقرأ/ي أيضًا: في غزة.. الحبل السُري يلُف "مجهولي النسب" بالمجهول
وترى البابا أن هؤلاء القاصرات يُجبرْن على تقبل وضعٍ يفوق أعمارهن والقيام بأدوار كبيرة في هذا العمر، وكل هذا من باب "السترة والعفة والحفاظ على شرف بناتهم" كما يبرر الأهل.
آية أبو يوسف، ابنة الصف الأول ثانوي، تزوجت قبل بداية العام الدراسي الحالي. كانت قد أُعلِنت خطبتها في امتحانات نهاية العام، وسرعان ما أُعلن عن زواجها في العطلة الصيفية. تقول لـ الترا فلسطين: "هذا كابوس كبير وليس زواج، ياريت حد يرجعني بنت".
وتضيف واصفة زيارتها الأخيرة لمدرستها بداية العام الدراسي، "ما قدرت أتحمل نظرة المعلمات، الكل بفكرني بفسّد في البنات، حتى نظرة الكل اختلفت وشعرت بأنني أكبر من بنات صفي بكثير، وزاد عليّ مسئوليات زوجي والبيت".
لم تجد آية سوءًا من زوجها، لكنها وجدت نفسها أمام "أدوارٍ كبيرة" جعلتها تشعر بأنها "لا تسوى شيئًا أمام صديقاتها اللواتي يتمتعْن بالذهاب للمدرسة والخروج والفسح وعايشين حياتهم".
ربع المتزوجات بغزة مؤخرًا قاصرات
تُبيّن إحصائية حصل عليها الترا فلسطين، أن 23.2% من عقود الزواج في غزة تعود لمن هنّ أقل من 17 عامًا، وقد احتلت مدينة غزة الصدارة في تزويج القاصرات بنسبة 40.8%، بينما كانت دير البلح هي الأقل بنسبة 6.9%.
ربع عقود الزواج في غزة مؤخرًا تعود لقاصرات، و14% من مجمل حالات الطلاق في المحاكم لقاصرات
مركز شؤون المرأة في غزة، تعامل مؤخرًا مع 120 حالة تزويج مبكر لفتيات دون سن الـ17. تُبين منسقة برنامج الإعلام في المركز سمر الدريملي، أن السبب المحوري لهذا الزواج هو العادات والتقاليد بنسبة 1.35%، ثم عامل زواج الأقارب بنسبة 3.15% من الأسباب، يليه كثرة عدد الأخوات في العائلة والرغبة في تزويجهن لتخفيف الأعباء وذلك بنسبة 1.14%.
ومن الأسباب أيضًا لتزويج القاصرات، تدني مستوى التحصيل العلمي بنسبة 4.3%، فيما تقبل 8% من القاصرات بالزواج بسبب قسوة الأهل عليهن وسوء المعاملة.
تؤكد الدريلمي أن نسبة حالات الطلاق للإناث من الفئة العمرية (14 - 17 عامًا) في قطاع غزة، بلغت 14% من مجمل حالات الطلاق في المحاكم.
اقرأ/ي أيضًا:
هل تقرأ الحرب على أطفالك قبل النوم؟