منذ فترة ليست بالقصيرة والشدّ والجذب بين دولة الاحتلال والمجتمع الدولي بخصوص التوسّع الاستيطاني يأخذ وقته وحجمه على أكمل وجه، فمن جهة، يعلن المجتمع الدولي موقفه صراحة من عدم قانونية التوسّع الاستيطاني، وهو موقف لا يتعدى كونه موقفًا كلاميًا خالصًا، لا أفعال تليه، ولا مواقف جديّة تترتب عليه، وهو الموقف الذي توقّف تعريفه عند حدود بناء المستعمرات الجديدة، لكنّه ومن حيث الجوهر تغاضى تمامًا عمّا باتت تطلق عليه دولة الاحتلال "النمو الطبيعي للمستعمرات"، أي بتوسعتها وبناء وحدات استيطانية جديدة لها.
شواهد كثيرة تدلل على أن دولة الاحتلال لم تتوقف عن بناء المستعمرات الجديدة، رغم تجنّب إعلانها ذلك صراحة، والاكتفاء فقط بالإعلان عن توسعات محددة هنا وهناك
من جهتها دولة الاحتلال، وحتى لا تتعرض لسلسلة من الإعلانات والإدانات اعتبرت كل بناءٍ في المجال الاستيطاني هو بمثابة توسيع للمستعمرات ومحض إفساح للمجال امام النمو طبيعي لهذه الكيانات.
عند هذه النقطة أخذ البناء الاستيطاني الاستعماري في أراضي الضفة الغربية والقدس مسعى جديدًا، يتجنّب فيه الاحتلال الإعلان عن إقامة المستعمرات الجديدة والاكتفاء ببند التوسّع الاستيطاني أو إفساح المجال للنمو الطبيعي لهذه المستعمرات. الكثير من المستعمرات بنيت أسفل هذا البند، وهو الأمر الذي يفسّر التسميات المكررة للكثير من المستعمرات مثل مستعمرات "كيدا" و"كيدا شرق"، و"تلمون" و"تلمون B" وهكذا.
هذه البؤر ورغم إعلان الاحتلال عن نيّته شرعنتها إلا أنه وحتى هذه اللحظة ما يزال يعتبرها أحياء ممتدة تتبع ذات المستعمرة
وهو الأمر ذاته وفي الكثير من الأحيان وفيما يتعلق بتسوية أوضاع البؤر الاستعمارية أو بحسب المسمى الاحتلالي "شرعنة" البؤر الاستعمارية، إذ تعمد دولة الاحتلال وفي الكثير من الأحيان وعند تسوية أوضاع هذه البؤر بمدّها بشبكات الكهرباء والماء واعتماد المخططات الهيكلية لها، إلى اعتبارها حيًّا جديدًا يتبع لمستعمرة قريبة أقيمت هذه البؤرة بالقرب منها، دون اعتبارها مستعمرة جديدة، مثلما يجري العمل هذه الأيام على شرعنة ثلاث بؤرة استعمارية جديدة قريبة من مستعمرة "عيلي" بين مدينتي رام الله ونابلس (بلغاي همايم، وهيوفيل، ونيفي شهام) وهذه البؤر وبالرغم من إعلان الاحتلال عن نيّته شرعنتها إلا أنه وحتى هذه اللحظة ما يزال يعتبرها أحياء ممتدة تتبع ذات المستعمرة، وهذا الأمر ينطبق أيضًا على بؤرة "متسبيه داني" التي أقر لها مخططات تعمل على تحويلها إلى مستعمرة كاملة لكنّه وحتى اللحظة يعتبرها واحدة من أحياء مستعمرة "معاليه مخماس" شرقي رام الله.
الكثير من المخططات الأخيرة الصادرة عن الجهات التخطيطية في دولة الاحتلال تدّعي أنها تريد توسعة مستعمرات قائمة، لكن وبعد مراجعة خرائط المخططات المعلنة، تبين أنها تنوي القيام ببناء مستعمرات جديدة يفصلها مساحة جغرافية كبيرة عن المستعمرة التي تدّعي عملية توسعتها.
فعلى سبيل المثال أودعت دولة الاحتلال مطلع نيسان/ ابريل مخططًا هيكليًا يحمل الرقم 2/6/510 لغرض إعادة تنظيم منطقة صناعية للاستخدام السكني لصالح مستعمرة "كريات أربع" المقامة على أراضي المواطنين في مدينة الخليل، لكن وبعد مراجعة الخرائط المتعلقة بالمخطط الهيكلي تبين أن قطعة الأرض المستهدفة تقع في منطقة جرت عملية مصادرتها في العام 1982 وتبعد مساحة جغرافية كبيرة عن "كريات أربع"، وهو ذات المكان الذي أقام فيه مستعمرون بؤرة وأطلقوا عليها بؤرة "متيسه افحاي" في العام 2018، وبالتالي تتجلى نيّة الاحتلال في شرعنة ما فعله المستعمرون وإقامة مستعمرة جديدة في المنطقة وتحديدًا على أراضي قرية بيت عينون شمالي مدينة الخليل.
وكذلك فقط طرحت دولة الاحتلال العام الماضي مجموعة من العطاءات لبناء ما مجموعه 1773 وحدة استعمارية لصالح توسعة مستعمرة "أرئيل" المقامة على أراضي المواطنين في محافظة سلفيت، ولكن وبعد مراجعة الخرائط تبين أن دولة الاحتلال تعتزم بناء مستعمرة جديدة على أراضي المواطنين تحت اسم "أرئيل غرب"، علمًا أن مخطط المستعمرة الجديدة في سلفيت قد جرت عملية المصادقة عليه في العام 1992 وحمل المخطط حينها رقم 1/3/130.
الأمر كله يكشف عن أن اللعبة الاستيطانية مرة أخرى مثل كرة النار المتدحرجة، تتحرك بلا توقف، وتأكل من الأرض ولا تشبع
وقد تكرر أيضًا في محافظة بيت لحم، وتحديدًا في حزيران/ يونيو من العام 2022، عندما تم طرح مخطط هيكلي جديد للإيداع من أجل توسعة مستعمرة "هار غيلو" المقامة على أراضي المواطنين في محافظة بيت لحم، وحمل المخطط حينها الرقم 1\4\401 وكان يهدف لبناء 952 وحدة استعمارية جديدة، ليتبين أن دولة الاحتلال تخفي نيّة لبناء مستعمرة جديدة تحت اسم "كارميل" ستقوم بعزل بلدتي الولجة وبيتير في محافظة بيت لحم.
هناك الكثير من الشواهد التي تدلل على أن دولة الاحتلال لم تتوقف عن بناء المستعمرات الجديدة بالرغم من تجنّب إعلانها ذلك صراحة، واكتفاءها فقط بالإعلان عن توسعات محددة هنا وهناك، إذ أن الأمر يندرج في إطار التوسعات المتلاحقة لهذه المستعمرات، وتزاوج البؤر التي تتنصل منها دولة الاحتلال باعتبارها غير قانونية لفترة طويلة من الزمن، ثم سرعان ما تقوم بتسوية أوضاعها وشرعنتها ليتم إلحاقها بالمستعمرات القائمة كحي جديدة أو كمستعمرة جديدة، الأمر كله يكشف عن أن اللعبة الاستيطانية مرة أخرى مثل كرة النار المتدحرجة، تتحرك بلا توقف، وتأكل من الأرض ولا تشبع.