لم تكن ماكينة الخياطة التي تحمل اسم هذه الماركة التجارية العالمية القديمة المتجددة، مجرّد حاجة من حاجات ومستلزمات البيت كثير عدد الأولاد والبنات، لقد كانت أكثر من ذلك بكثير، لقد كانت علامة على أنّ أهل هذا البيت ليسوا من المقتدرين ماليًا، بل من طبقة الوسط فما دون، وكانت مؤشرًا على أن سيّدة المنزل الأولى طموحة وليست مستكينة للظروف.
كان امتلاك هذه الماكينة يؤشّر إلى أنّ سيدة المنزل طموحة، ودليل على أنّها من الأمهات الماهرات المدبّرات المثابرات
كان امتلاك هذه الماكينة فوق ذلك، شهادة تثبت أهليّة وتفوُّق صاحبة المنزل، ودليل على أنّها من الأمهات الماهرات المدبّرات المثابرات، فهي قادرة على تنظيم هندام بناتها وأولادها، والاستفادة من كل قميص أصبح صغيرًا على صاحبه، أو بنطلون أو فستان أصبح قصيرًا بعد أن زاد صاحبه أو صاحبته طولًا وعرضًا ومنكبًا.
وحتى القطع التي لم يعد منها رجاء بفعل البلى والتمزق، أو مخالفة الدارج من الموضة: لونًا أو قماشًا أو تصميمًا، كانت تُجمع وتتحول بفعل الأم الماهرة وعصاتها السحرية (سنجر)، إلى مظلّة كخيمة المهرج أو شراشف صيفية ملونة أو بطانة ووجوه داخلية للحافات والمخدات، كانت المخدات أيامها طويلة ومرتفعة بعض الشيء، وكان هناك الكثير منها، لكي تستخدم كمساند للجالسين على الفراش الأرضي حول صوبة الكاز في منتصف القعدة.
كانت مالكة الماكينة سيدةً في الحارة، تُقصِّر وتُطوّل وتُوسِع وتُصغّر وتُفصّل وتخيط للجارات، وتمنح لكل منهن سعرًا يناسب إمكانيّاتها مهما تواضعت، كانت مالكة الماكينة مسؤولة عن تعظيم مداخيل الأسرة ومراكمة القرش فوق القرش والشلن فوق الشلن والبريزة فوق البريزة حتى تصير دنانير كثيرة وذات بركة.
كان الولد متكوّرًا حول صوبة الكاز، وقد احمرّت وجنتاه وتخدّرت أطرافه بفعل الدفء، كان أخوه يحل الواجب المدرسي، كانت البنت الكبرى ترسم مستقبلها، وكانت أختها ترسم حدود الفستان من المخطط الملحق بمجلة بوردا الألمانية.
بسرعة محسوبة وباتساق كبير بين الخيال والعينين واليدين والساقين تسحب قطع القماش لتصنع منها العجب
كانت طبقة الكلس قد تقشّرت، وكان الربُّ يمسك بعمود الحديد الذي يشد سقفًا من القصب فوقه الطين المجبول بالتبن، كان الرب يبسط كفيه الكبيرين حول البيت ليحميه من الرياح، وينفخ على الشرور فتبتعد، كانت روح الرب تفيض غبطة وسرور، حتى أنه أنزل حبلًا من عمود الحديد وجعل في نهايته قنديلًا كهربائيًا يعمل بالكبسة.
اليد اليمنى تعطي العجلة اليدوية دفعة بسيطة، وكأنها شرارة التشغيل، تساندها الرجل المسنودة بزاوية 30 درجة مئوية على بسطة الحديد، فتدور العجلة الكبيرة، وبقشاط ناقل للحركة، تدور الماكينة مسرعة، تصدر صوت طرطرة عجيب، وبسرعة محسوبة وباتساق كبير بين الخيال والعينين واليدين والساقين تسحب قطع القماش لتصنع منها العجب.
تدور الماكينة، تتوقف ثم تدور، تطرطر ثم تسكت ثم تطرطر لفترة أطول، تفتح اليد اليسرى جرارًا صغيرًا تستخرج منه ماسورة خيوط، أو إبرة جديدة، أو حقنة زيت صغيرة تضع منها قطرات في حلق السنجر، ثم تعود لتدور وتطرطر.
آيه أيّتها الدنيا! كم أنت ماكرة وشقيّة وحنونة وجاحدة!
ذهب الأولاد إلى المدرسة ثم عادوا، خرجوا للملعب ثم عادوا، ذهبوا إلى الجامعات ثم عادوا، سافروا ثم عادوا، حصلوا على وظائف وزوجات وأولاد، ظلّت ماكينة السنجر في مكانها، وظلّت الشمس تدخل يوميًا بذات الموعد من ذات الشباك مثيرة ذات المقدار من الهباء المنثور، ظلت اللمبة معلقة بعمود الحديد في السقف الذي تقشّر كلسه، وظل الرب ممسكًا بعمود الحديد، وناشرًا عباءة رحمته فوق الحوش وحوض النعنع، وبرميل الماء وغالون الكاز، وعلبة الكبريت فوق رف المطبخ، ومنصب البابور، ظلت كافة الأشياء في الأماكن التي خلقت لها، حتى الكشتبان بقي في موضعه داخل الجرار، وحدهُ الخيط اللعين لم يعد يدخل في ثقب الإبرة.
آيه أيّتها الدنيا! كم أنت ماكرة وشقيّة وحنونة وجاحدة! كان على السّيّد سنجر صديق الأمهات أن يخترع إبرة لا تكشف ضعف أبصارهن ورعشة أكفهن.
اقرأ/ي أيضًا: