09-سبتمبر-2018

26 سنة ولا يزال ديوان نزار قباني مطويًا في الصفحة 352 منتظرًا صاحبه الأسير ناصر أبو سرور (48 عامًا) ليعود إلى منزله في مخيم عايدة بمدينة بيت لحم ويكمل قراءته من حيث توقف.

ليس فقط هذا الديوان، إذ أن "مزيونة" لا زالت تحتفظ إلى الآن بكتبٍ جامعيةٍ وأدبيةٍ، ومجلاتٍ فنيةٍ وسياسيةٍ، ورسائل وأغراض جميعها جزءٌ من ذكريات ابنها ناصر المعتقل منذ عام 1993، والمحكوم بالسجن مدى الحياة، بتهمة مشاركته في قتل ضابطٍ إسرائيلي برفقة ابني عمه؛ الشهيد ماهر أبو سرور والأسير محمود أبو سرور.

"من مصغره محبوب وشخصيته حلوة، يحب الاهتمام بنفسه، لما اعتقلوه كان في سنته الثالثة وبدرس إنجليزي. فالح ومتفوق في دراسته، بس الزمن أقوى منا كلنا" تقول والدته مزيونة. ثم تُقلب ألبوم صور لـ 23 عامًا عاشها ناصر بين عائلته، وتخبرنا بأنها كانت أعوامًا مميزة ولم يعش مثلها أحد، قضاها في ممارسة هواياته المفضلة والمشاركة في النشاطات الفنيّة في المخيم والجامعة.

الأسير ناصر أبو سرور نفّذ عملية قتل خلالها ضابطًا في جيش الاحتلال، ثم عاد ليدرس مع رفاقه، قبل أن يتم اعتقاله في الليلة ذاتها

تُرينا صورًا له في مراحل عمرية مختلفة؛ في طفولته وشبابه وهو يدبك أو يسبح، أو يضحك، أو يجلس أمام البحر في رحلةٍ ذهب بها مع أصحابه، وصورًا لناصر مع والدته؛ إحداهن كانت قبل اعتقاله، وأخرى في المرات القليلة التي سَمح الاحتلال لها بلمسه واحتضانه في السجن، ورغم أن الملامح والابتسامات تغيّرت إلا أن ناصر ظل  يحتضن والدته بقوة.

أما عن فترة تنفيذ العملية تحدثنا والدته أن لا أحد كان يعلم أو يتوقع شيئًا، وأنه كان يأتي وأولاد عمه إلى المنزل يتدربون من خلال إمساك المسطرة على أنها سلاح، والكل كان يظن أنهم يلهون ويلعبون.

وتضيف أن ناصر أعطى رسالة لأصدقائه وطلب منهم أن لا يفتحوها قبل يوم الاثنين، كتب فيها "سامحوني يا أصحابي وقولوا لأهلي يسامحوني، يوم الاثنين سأكون في عالم ثاني"، مبينة أن أصحابه ظنوا أنه على خلاف مع أهله ولم يتوقعوا ولو للحظة أنه سينفذ هذه العملية.

اقرأ/ي أيضًا: الأسير رائد السعدي يحمل مفتاح السجن معه

في ليلة قتل الضابط، عاد ناصر إلى منزله دون أن يشاهده أحد، طلب من شقيقته أن تنظف ملابسه المتسخة بالدماء، وعندما سألته أجابها، "اغسليهن بدون ما تحكي، ذبحنا ذبيحة وملينا حالنا دم". في الليلة ذاتها اعتقله جيش الاحتلال من منزل أصدقائه، حيث كان يدرس معهم لامتحان سيقدمه في اليوم التالي.

ظل ناصر سنوات يرفض إكمال دراسته في الجامعات العبرية، "كان يقول أنا قاومت الاحتلال وسجنت لا لأدرس معهم، وبعد أن سُمح للأسرى بالدراسة في الجامعات الفلسطينية أكمل دراسته في جامعة أبو ديس" تخبرنا مزيونة.

أما الآن، فيتولى ناصر تعليم الأسرى ويعطيهم الدورات والحصص التعليمية في شتى المجالات. تعلق والدته قائلة، "لما أزوره يطلب الأسرى مني أتوسط لهم عنده عشان ينجحوا بالامتحانات، أقوله ع مهلك عليهم، يقلي بدهم يتعلموا".

وفي بداية اعتقاله (عندما كان يُسمح للأسرى بعمل الأشغال اليدوية) كان لا يفوّت "عيد الأم" دون أن يرسل لوالدته هديّة من صنع يديه، يخط لها عليها أجمل الكلمات، فمرة يهديها مجسمًا لسفينة، ومرة أخرى مجسمًا لقبة الصخرة، أو حتى لوحة مطرّزة كتب عليها، "إلى مزيونة التي تشربت مع ماء ثدييها أولى أبجديات الوطن.. صغيرك حتى يكبر ناصر أبو سرور".

الأسير ناصر واحد من 30 أسيرًا اعتقلهم الاحتلال قبل اتفاقية أوسلو، ورفض الإفراج عنهم بعد توقيعها، كما رفض الإفراج عنهم ثانية في إطار اتفاق مع السلطة الفلسطينية أبرمته حكومة نتنياهو، تضمَّن الإفراج عن جميع أسرى ما قبل اتفاق أوسلو مقابل استئناف المفاوضات، وهو الاتفاق الذي كان يُفترض تنفيذه على أربع دفعات، لكن الدفعة الرابعة أُلغيت من قبل حكومة الاحتلال، أما هو فأُزيل اسمه من صفقة "شاليط" ومن الدفعة الثالثة بسبب احتجاج والدة الضابط الذي قُتل.

رفض الاحتلال ثلاث مرات الإفراج عن الأسير ناصر أبو سرور، ولا يزال سريره فارغًا إلى جوار سرير أمه بانتظار عودته

تأخذنا مزيونة إلى غرفتها وترينا سرير ناصر الذي اشترته قبل إزالة اسمه من الدفعة الثالثة ووضعته بجانب سريرها، لتعوّض الأيام والسنوات التي عاشها بعيدًا عنها. ليس هذا فقط بل أخبرتنا أنهم زيّنوا المنزل والحارة وجهزوا مكان الحفل، "استنينا الأسماء في الدفعة الثالثة وما سمعنا اسمه غيروه في اللحظة الأخيرة".

ورغم أن مزيونة لا تستطيع القراءة، إلا أن ناصر لا يفوّت فرصة دون أن يكتب لها الرسائل، ليذكرها بطفولته التي لم تنسها يومًا، وقد طلبت مزيونة منّا أن نقرأها لها.

رسالة بتاريخ 28. تشرين أول. 2014

"سأبدأ من دخولي روضة الأطفال، لا أذكر أي شيء قبل ذلك، روضة أطفال في مخيم عايدة تحت الجامع، أمي أخذتني وعملت مشكلة كبيرة بسبب لباس يشبه لباس البنات، وأذكر نفسي على الأرض ومن حولي أناس كثر، وأمي تحاول امساكي واقناعي بالبقاء داخل الروضة".

تعلق مزيونة، "كان مشاكس وجميل".

رسالة بتاريخ 14. تشرين ثاني. 2014

"آه يا مزيونة كم أعرفكِ وكم أحبكِ، في آخر الزيارة صحصحت قليلًا فأستعدتني جدًا، ورأيت ثانية بريق عينيها الذي يضيء غرفة الزيارة كل مرة تأتي بها".

تُبين مزيونة أن ناصر بعد هذه الزيارة علم أنها لم تعد تُبصر كالسابق بعد إصابتها بجلطة في عينيها، "ظليت 4 سنين مخبية عليه، كنت أشوفه غباش ولكن ما قلت له عشان ما أمقته، بس لما زرناه كان مربي لحية، أخته قالت له يحلق لأنه مبين كبير، ولما سألني حلو يمّا باللحية؟. ما عرفت أجاوبه (..) عرف من أخته وعيّط وقال لي، أنا السبب ما تزوريني يمّا أنا ما بستاهلك."

رسالة بتاريخ 23. تشرين ثاني. 2014

"قبل قليل أنهيّت حلاقتي تجهيزًا للزيارة غدًا ورؤية مزيونة ومن يأتي معها من الأمورات الخمسة".

رسالة بتاريخ 7.كانون أول. 2014

"أمي أيضًا كانت في حال أفضل. اليوم قلت لها أيضًا بأني على موعد معها في حوّش البيت على طاولة الإفطار، وأن عليها أن تتمسك بالحياة لأن هذا وعدنا الاثنين. لقد أحبت سماع تلك الكلمات مني، رأيت تأثير ذلك، وقبل انتهاء الزيارة قالت لي، سأقول لنادية بأنك تحبها كثيرًا، قلت لها، وبموت فيها كمان. واذا بمزيونة تضاء وكأنها شجرة عيد ميلاد".

تتذكر مزيونة، "آخر مرة تصوّرت معه، ركض علي وحضني وهو يصرخ، يمّا أوعي تموتي، احنا اتفقنا نظل مع بعض إذا مُتي بموت بعدك.. جاوبته وقتها إذا أجا ملك الموت بدي أقله استنى شوي إذا قبل قبل" تسكت قليلًا ثم تُضيف، "شو بدي أقله هو عزرائيل بسأل حدا بس بدي أسكتّه".

رسالة بتاريخ 22.كانون أول. 2014

"الحقيقة أن أمي فعلاً شاطرة في كلام الحب والغزل، أطلبي منها أن تغني لك أغنية ظريف الطول كانت تغنيها لي، لا زلت أذكر بعضًا من تلك الأغنية:

يا ظريف الطول وينك يا انت.. يا سنسال ذهب ع صدير البنت

والله يا يُما أنا الليلة حلمت.. أم عيون السود بحضني نايمة

جميلة أمي وجميلة أغانيها. عليكِ أن تسمعي أمي تغنيها، يا رب تكون متذكرة لحد اليوم".

فتردد مزيونة، "يا ظريف الطول وينك يا انت".


اقرأ/ي أيضًا:

زنزانة حنا والنائمة!

كريم يونس.. وما تبقّى من أمل

نادر العفوري.. الجنون حين يُصبح خلاصًا