11-أغسطس-2015

الفلسطيني و"الجيب" أثناء انتفاضة الحجارة (Getty)

"المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب"، من مقدمة ابن خلدون. 

لم تكن شوارع الضفة الغربية منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي (1967)، وحتى السنوات الأولى من تسعينيات القرن العشرين تحوي ولا حتى عشرة بالمائة مما تحويه اليوم من سيارات الدفع الرباعي، المسماة بالدارجة "جيب". بينما تتزاحم شوارعها اليوم بهذا النوع من المركبات، من "ماركات" عديدة، وسنوات إنتاج سوادها الأعظم حديث جدًا.

تعمل سياسة الاحتلال وصندوق النقد الدولي على إبقاء الفلسطينيين قريبين من حافة الهاوية اقتصاديًا

كان الراجل في أحد شوارع رام الله أو الخليل أو بيت لحم خلال السبعينيات والثمانينيات يكاد لا يلمح هذا الصنف من المركبات إلا نادرًا، وهذا النادر كان يختص بمركبات جيش الاحتلال ومخابراته وأجهزته الإدارية، مثل "الإدارة المدنية ليهودا والسامرة"، وهو جهاز أمني عسكري مركّب كان يقوم بمهمات إدارة الشؤون الحيوية لسكان الضفة الغربية، وكان يرأس الإدارة المدنية أحد جنرالات الجيش أو المخابرات ويحمل مسمى الحاكم العسكري.

والنفر القليل الذي كان يمتطي سيارات الدفع الرباعي "الجيبات" كان غالبًا أميل إلى كفة الاحتلال من رجالات روابط القرى والمخاتير المدللين من قبل الحاكم العسكري، وبعض التجار ذوي الارتباطات المتينة بسلطات الاحتلال. بينما اليوم، وفيما يختص بانتشار المركبات ذات الدفع الرباعي فالحال غيره، وكما تضاعف انتشارها آلاف المرات، اختلف صنف مالكيها وسائقيها كذلك، واختلفت طريقة اقتنائها وتملكها أيضًا.

 لا يمكن تناول انتشار سلعة من هذا النوع، دون التطرق لمسار حركتها وتحصيلها من السوق وفيه، وليس من الجديد القول إن القطاع المالي في الضفة الغربية وقطاع غزة نشأ بشكله الرسمي المتعارف عليه اليوم قبل عقدين من الزمن، بعد توقيع اتفاقيات أوسلو في العام 1993 وبروتوكول باريس في العام 1994. وقد منح بروتوكول باريس الفلسطينيين سلطة إدارة شؤونهم النقدية والمالية من أجل دعم النمو الاقتصادي المرتقب من طرف المانحين الدوليين ورعاة "عملية السلام" بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حتى وإن كان البروتوكول يفرض إلزامهم بنوع سكاكين الفواكه التي يمكنهم استيرادها، وكذلك أنواع حبوب البقوليات.. إلخ.

وبما أن سياسة الاحتلال الاقتصادية تجاه الفلسطينيين بعد اتفاقيات أوسلو، وكذلك سياسة صندوق النقد الدولي، تقوم على المحافظة على موقعهم القريب جدًا من هاوية الانهيار الاقتصادي، لارتباط ذلك بسهولة الدفع نحو حصد المزيد من التنازلات السياسية، وكلما أثير الحديث حول طابع هذه السياسات تبرز مبررات حوكمة الموازنة وتقليل النفقات والتحصيل الضريبي لتغشي البصر عن الطابع البنيوي المتأصل للعقدة الاقتصادية التي يحياها فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة. فقد جاءت السياسات المالية وأنماط التعاطي البنكي مع هذا القطاع من الفلسطينيين خادمة لمقولة الاحتلال وصندوق النقد الدولي، لكن بتكتيكات بنكية تكميلية وغير مباشرة في تدخلها السياسي.

تتضح الصورة أكثر عند معرفة أن إجمالي القروض المصرفية المقدمة للقطاع الخاص في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفق أرقام سلطة النقد الفلسطينية، حتى نهاية 2014 بلغ 3.656 مليار دولار أمريكي، أقل من اثني عشر في المائة منها في قطاع غزة. في حين بلغ إجمالي قيمة القروض، من ضمنها الحكومية حدود الـ4.895 مليار دولار، علمًا أن قيمة القروض الموجهة نحو شراء السيارات في عام 2014 تجاوزت الـ165 مليون دولار أمريكي. ربما تكون هذه الأرقام طبيعية أو متواضعة في أماكن أخرى من العالم، لكن بالقياس إلى الحجم الديمغرافي لفلسطيني الضفة الغربية، والبالغ عددهم 2.83 مليون نسمة منتصف العام 2014، وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فهذه الأرقام تعتبر شاهقة إقليميًا.

هناك طبقة مستحدثة، برزت ما بعد أوسلو تتواطأ ضمن معادلة خنق الفلسطيني اقتصاديًا، قوامها السماسرة السياسيون والأمنيّون

تزداد فداحة هذه الأرقام عند العلم بأن أكثر من مائة ألف عامل في القطاع الخاص في الضفة الغربية، و22.5% من العاملين بأجر في القطاع الخاص، يتقاضون أقل من الحد الأدنى للأجور المقر حكوميًا، والبالغ 1450 شيكل إسرائيلي/384 دولار أمريكي. كما أن السلطة الفلسطينية نفسها تقع تحت وطأة مديونية خارجية وداخلية لا تقل عن 4.3 مليار دولار، وفي الغالب تعجز في نهاية كل شهر عن دفع رواتب موظفيها البالغ عددهم مائة وسبعين ألف موظف، ويشكل المدينون منهم خمسة وسبعين في المائة، مجمل قروضهم صبت على الرهن العقاري، وشراء السيارات، ودفع تكاليف الزواج، وشراء الأجهزة الكهربائية والأثاث المنزلي. بينما يبلغ معدل البطالة ما يزيد على خمسة وأربعين في المائة في أوساط خريجي الجامعات ومَن هم دون سن الثلاثين.

كل هذا لا يتم بالتوافق بين السلطة الفلسطينية وصندوق النقد الدولي والبنوك وحسب، بل إن هناك طبقة مستحدثة، برزت ما بعد أوسلو تتواطأ أيضا ضمن معادلة خنق الفلسطيني اقتصاديًا، قوامها السماسرة السياسيون والأمنيون الذين يطبِّعون الاتصالات بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، وسماسرة المشاريع العقارية، وكذلك سماسرة المال الذين يعملون كوسطاء ضمن توافقية التمويل الأجنبي بين الوكالات الحكومية الأجنبية والشركات التجارية من جهة، والمنظمات غير الحكومية والشركات المحلية من جهة أخرى، يضاف إليهم رجال الأعمال "العائدين" الذين استثمروا قربهم من قيادة السلطة الفلسطينية والاحتلال في احتكار قطاعات عديدة، منها الاتصالات واستيراد السيارات، وإنتاج الأغذية.. إلخ.

هذه السياسات، وتشجيع الأنماط الاستهلاكية المرتكزة على الإنفاق عبر القروض البنكية، ما هي إلا وحي نيوليبرالي سقط على فلسطين، كما الاستيطان والاحتلال والتطهير العرقي، وهي لا تتعلق بالهندسة الاجتماعية وخلق "الفلسطيني الجديد" فقط، بل تتعدى ذلك إلى توظيفها سلاحًا اجتماعيًا سياسيًا يستهدف فرض ما هو أكثر كثافة من ضغط على الفلسطيني لتجريده المزيد من حقوقه، وتغييب الحديث عنها. فما مارسته سياسات صندوق النقد الدولي في أكثر من بقعة "عالمثالثية"، تمارسه منذ أكثر من عقدين في فلسطين، مضخمة حجم القنبلة الاجتماعية الموقوتة، ومن هذا الباب تجدر الإشارة أن الفلسطينيين عشية الانتفاضتين، الحجارة 1987 والأقصى 2000، كانوا يمرون في مرحلة من الرخاء النسبي، من حيث توفر السيولة النقدية، وتدني معدل البطالة، وانخفاض مستوى المديونية، ما شكّل عاملًا تحفيزيًا في الانطلاق نحو الفعل الوطني الموجه ضد الاستعمار، بينما في الأوضاع الحالية الضاغطة، فمن البعيد عن منطق الحال الفلسطيني توقع فاعلية مادية كتلك التي غذت الانتفاضتين، على الرغم أن مساحة الفعل تتوفر على ما هو في متناول الجمهور، إعادة بناء البيوت المهدمة فورًا من قبل الأهالي مثاًلا.

والحال أن ملاذات سيارات الدفع الرباعي في الضفة الغربية محدودة وضيقة جدًا، بشكل أساسي يمكنها التحرك داخل المدن التي توجد فيها السلطة الفلسطينية، وتنقلها بين هذه المدن مرهون بالحواجز العسكرية الإسرائيلية وعربدة المستوطنين الذين لن تكون آخر بدعهم منظمة "تدفيع الثمن" الإرهابية، كما أن الأراضي الوعرة والطرق الترابية التي يمكنها أن تطأها شبه منعدمة، كون الريف الفلسطيني في الضفة الغربية يتمركز أساسًا في المناطق المصنفة "ج/C" وفق اتفاقيات أوسلو، وهي حيث تتركز المستوطنات الإسرائيلية ومعسكرات جيش الاحتلال والأراضي المصادرة أو التي يمنع دخولها أو استعمالها، فلو لُبِيَتْ عقدة النقص الفلسطينية تجاه "الجيب" باقتنائه، لا متسع لتلبيتها بقيادته.

ملحوظة: يكثر في الضفة الغربية مشاهدة لافتة تقول "سر بغيار واطئ أمامك نقطة تفتيش".

اقرأ/ي أيضًا:

الشهداء، زوجاتهم، وإخوتهم.. الموروث والذكورية

العملة الوطنية اللبنانية في الميزان

 حزب الله.. وداعًا لسيارة "الفولفو"