23-أكتوبر-2024
استشهاد عائلة الصحفي مصطفى الصواف

"أنا الابن البكر لمصطفى الصواف ومها الجيار، لدي 6 إخوة وأخت واحدة، نشأنا في بيت احتضننا بحب واهتم بتربيتنا، علّمنا كيف نحب الله والناس"، هكذا يحب المخرج والصحفي الشاب محمد الصواف تعريف نفسه. 

عائلة محمد لم يتّبّقّ له منها سوى أخت واحدة تقطن في الأردن، حيث راحت في مجزرة مروعة حين أغارت الطائرات الإسرائيلية عليها، أثناء نزوحهم في بيت جدهم الكائن في حيّ التفاح بغزة، وقُتلت "الأسرة الأم" على مرحلتين، إضافة إلى استشهاد عدد كبير من آل الصواف. 

"كان دعاء أبي ليلة المجزرة مختلفًا، خرج من قلبه، كان متأثرًا جدًا".. يصف محمد الصواف الساعات الأخيرة قبل قصف الاحتلال لمنزل جده

نشأ محمد في بيتٍ، كانت الصحافة أحد أركانه، فوالده الراحل مصطفى الصواف؛ أحد أعمدة الصحافة الراسخة في غزة؛ وهو المعروف بثباته في مواقفه، "لا يجامل أبدًا فيما يقتنع أنه صواب وحق، حتى أن صراحته أحيانًا أثارت استياء البعضٍ"، حسب وصف ابنه.

يروي محمد الصواف لـ"الترا فلسطين" تفاصيل المجزرة التي غيرّت حياته، وجعل الحزن يسكنه دون أن يهدمه.

دعاؤه في تلك الليلة

يقصّ على "الترا فلسطين" ما حدث منذ البداية: "في 9 تشرين الثاني\نوفمبر 2023 شعرت بالذنب تجاه عائلتي، وأقصد أمي وأبي وأطفالي، وقررت أن أتفرّغ لهم قليلاً، وأجالسهم، فلا يدري أيّ منا سيفارق الآخر أولاً، وازدادت الأمور صعوبة، كانت هذه هي المرة الأولى التي أقرر فيها أن أتوقف قليلاً عن العمل، وأعود تمام الساعة الثانية عشر ظهرًا حيث مكان نزوح عائلتي، جلست قليلاً مع والدي وتناولنا طعام الغداء".

 يحاول أن يكون دقيقًا في سرد الأحداث بقوله: "عند العصر اصطحبت طفليَّ أمير وكريم، للجلوس مع أبناء عمي في الشارع قرب المنزل، جلس الصغيران إلى جانبي، وما هي إلا دقائق حتى شاهدنا لهبًا كبيرًا يحيط بنا، وحجارة بيت جيراننا الذي لا يبعد عن مكان جلوسي إلا مترين قد غمرتنا، وإثر القصف أُصبت بخلع في الكتف وشرخ في الرأس، وأصيب طفلاي بجروح بسيطة ورعب كبير، كما أصيب أخي أحمد "أبو قلب طيب" بكسر في الفخذ، الذي اُستشهد لاحقًا في ليلة الفاجعة ومعه أخي محمود، في ذلك النهار ارتكب الاحتلال مجزرة كبيرة عند جيراننا ذهب ضحيتها نحو خمسة عشر نفسًا".

محمد مع والده مصطفى الصواف في تكريم
محمد مع والده مصطفى الصواف في تكريم

"حسنًا.. في 17 تشرين الثاني\نوفمبر 2023 عشت أصعب يوم في حياتك"، يصمت محمد قليلاً أمام عبارتي التي أستحثه بها لمتابعة الحديث، ثم يجبر نفسه قائلًا: "كان والدي نازحًا في بيت جدي في حيّ التفاح، تركنا منزلنا في الشيخ عجلين غرب غزة بعد أن اشتد القصف، وانتقلنا إلى منزل جدي، أما أنا، فقد كنت أبيت في منزل أنسبائي في حيّ الشجاعية، في تلك الليلة، تأخرت عن العودة حتى خيَّم الليل، ولأن القصف كان على أشده، والخوف تملّك القلوب، لم أشأ إزعاج أنسبائي، فقررت اللجوء إلى حيث يقيم والدي وأمي وبعض إخوتي في شقة ابن عمي بعمارة جدي".

 

صلّوا العشاء جماعة، وتسامروا، وفي الثامنة مساءً، قطع مصطفى الصواف حديثه فجأة وبدأ يدعو، "كان دعاؤه مختلفًا تلك الليلة، خرج من قلبه، كان متأثرًا جدًا"، يقول محمد.

مشهد وكأنه لن يتزحزح من أمام عينيه أبدًا: "كنا نؤّمن خلفه بقلوب استمدّت الخشوع من تأثره، ثم ذهب للنوم، بعد قليل، لحقت به إلى غرفته، حيث فرشت لي أمي فراشًا عند قدميه، ونامت هي على فراش على الأرض بجانبه، بينما هو نام على السرير".

محمد الصواف إلى جانب والدته
محمد الصواف إلى جانب والدته

 

استيقظ محمد بعدها على ألم لا يُحتمل بين الركام والنار والدخان من حوله، لم يستطع التحرك أو الصراخ، حتى ظنّ من جاء لإنقاذه أنه فارق الحياة، فتركه ليبحث عن أحياء آخرين. 

يصف أقسى لحظة مرت به: "كنت أنتظر صاروخًا آخر لينهي الأمر أو أن أعود للنوم، ثم عندما انتبهوا لأنيّني، بدأوا بإخراجي، حينها عرفت في أعماقي أن والدي وأمي قد استُشهدا، لكنّي لم أجرؤ السؤال عنهما، وفي المستشفى، علمت أنهما استشهدا ولم يُتعرف عليهما إلا من بعض أجزائهم، والدي عُرف من فروة رأسه وقدمه، وأمي من قدمها فقط".

وصل محمد إلى المستشفى بعد أكثر من 12 ساعة مصابًا في جميع أجزاء جسمه، وتركزت الإصابة في الرأس والظهر، وأثناء تواجده في مركز صحفي يتبع عيادة الدرج، كان الأقارب يتحدثون ويذكرون أسماء إخوته وأبنائهم، هذا استشهد، وهذا لفظ أنفاسه الأخيرة، وآخر نزف وحاولوا إنقاذه حتى استشهد. 

ويعقبّ بحزن: "كنت أسمعهم يذكرون الأسماء ولا أستطيع الحراك، وهكذا بدأت أعرف مصيرهم، واحدًا تلو الآخر، حتى خروجي من المستشفى وسؤالي عنهم جميعًا".

نهج مصطفى الصواف

لم يرغب الأب في البداية أن يسلك ابنه محمد الطريق نفسه، "زرع أبي في داخلي بذورًا كثيرة، لذا، درست الصحافة وعملت بها ثم اندفعت نحو صناعة الأفلام ووجدت بها شغفي، كنت أستشيره في أفلامي؛ يتفق معي ويختلف أحيانًا، لكن رأيه دومًا كان سديدًا، وأحيانًا أكتشف ذلك متأخرًا".

"هل يمكننا القول أنك وإخوتك أصبحتم صحفيين بالفطرة؟".. يَخرج ما في أعماقه بسيطًا صادقًا وعفويًا على هيئة إجابة: "نعم، يبدو أن هذا ما حدث، كثيرًا ما كان يُتهم أبي بأن الصحافة تسرقه منا؛ أمي لطالما اتهمت الصحافة بأنها ضرتها اللدود تلاحقها حتى في بيتها، فلم يكن له مواعيد محددة؛ وبلدنا يضجّ بالأحداث، مع ذلك، تحوَّل كثير منا إلى حب المهنة مبكرًا، ربما على عكس رغبة أبي وأمي، فهي "مهنة المتاعب" كما يقال، لكننا كنا نتفاعل معه، وأحيانًا يصطحبنا إلى بعض تغطياته أو إلى مكتبه". 

ولعل ما أثّر به، هو وكل من تدرّب على يدي والده الصواف، أن الأخير كان ينظر إلى ممارسة الصحافة باعتبارها جزءًا من الحياة، ليتشرّب منه "أن الأخلاق التي يجب أن يتحلى بها الإنسان السويّ يُفترض أن يتحلى بها الصحفي أكثر".

لم يكن الصحفي المخضرم الشهيد مصطفى الصواف مقتنعًا بالحيادية ورأي أن رداء الإنسانية لا يمكن خلعه عن ممارسة الصحافة

ويسرد الخطوط العريضة التي رسمها له، وتندرج في إطار منهج لواحد من أقدم الصحفيين المخضرمين في غزة، الذي عُرف بقدرته على التحليل والنظرة العميقة للأحداث: "آمن أبي أنّ على الصحفي المحافظة على رداء الإنسانية عند ممارسة الصحافة، لا أن يخلعه؛ فهو ليس مجرد آلة، لم يكن مقتنعًا بالحيادية، فلا يمكن للصحفي أن يمارس الحياد بين الظالم والمظلوم، ولا أن يتجرد من إنسانيته وتحيزه للمظلوم في تغطيته".

وأضاف أن خطه الثاني كان أن "الإنسان السويّ لا يكذب ولا يدلس، وكذلك الصحفي. لا يستعين بـ "المصادر المضروبة"؛ ولا يأخذ الأخبار من مغتاب ولا نمام، الصحافة عنده حياة، والحياة يجب أن تقوم على الصدق والأمانة".

وخط ثالث في نهجه، أنه "آمنَ أن كونك صحفيًا لا يعني أن تفقد قناعاتك الخاصة، وانتماؤك وأيدلوجيتك، لكن هناك شعرة يجب أن تحافظ عليها بين قناعاتك وممارستك للصحافة". 

ونقطة رابعة، تتمثل في أن الصحفي أو من يعمل في الإعلام أو السينما لا يمكن أن يتميز إن لم يكن له رصيد واسع من الثقافة، مضيفًا: "أول هدية وعيت لها كانت سلسلة قصص أهداني إياها بعد تخرجي من الأول الابتدائي، ومن يومها أصبحت القراءة ثقافة عندي".

أما الخط الأخير، كان يؤمن بأن الصحفي ليس هو من يتخرج من كلية الإعلام فقط؛ بل الصحافة ممارسة وحياة وشغف تستند إلى قواعد يمكن تلّقيها في الجامعات. 

الفقد العائلي الصحفي

لم يتوقف انتقال الإرث الصحفي عند محمد، وإنما تشبّع به أيضًا أخواه منتصر ومروان اللذان استشهدا معًا أثناء عملهما الصحفي، بعد مجزرة العائلة بأقل من أسبوعين، وكانت لهما علامة فارقة.

الشهيد الصحفي منتصر الصواف
الشهيد الصحفي منتصر الصواف

 

منتصر كان شغوفًا بالتصوير منذ صغره، حسب كلام أخيه الأكبر، إذ امتلك كاميرا صغيرة، وكان يصوّر مناسباته ورحلاته مع أصدقائه، ظلّ هذا الشغف ملازمًا له عندما درس الإعلام في الجامعة، وأخذ ينتج قصصًا وتغطيات لوكالة الأناضول، لكن انطلاقته الحقيقية كانت بعد عدوان 2014 على غزة.

ويوضح في السياق ذاته: "في ذلك الوقت لم يرتبط عمليًا مباشرة معي، لكن تخصصي تقاطعَ مع عمله في مجال التصوير، لذا كان يستشيرني كثيرًا وكنت أوجهه في بعض الأحيان، كنا نستعين به عندما نعمل تحت الضغط، منتصر كان مثابرًا لا ييأس رغم العقبات، وأضاف لي الكثير ربما أكثر مما أضفته له".

لشهيدان الصحفيان الأب وابنه الأصغر مصطفى ومروان الصواف
الشهيدان الصحفيان الأب وابنه الأصغر مصطفى ومروان الصواف

 أما عن شقيقه مروان آخر العنقود، الذي وصفه بـ "طيب القلب البسيط المرح"، يقول: "بدأ مروان حياته المهنية معي، الكاميرا والأفلام لهما سحرهما، ومن السهل أن ينجذب لهما الإنسان إذا كان لديه الشغف، لم أطلب من مروان أن يتخصص في مجال واحد، بل أشركته في فريق العمل الذي يشمل تخصصات مختلفة مثل التصوير والإضاءة والصوت والتصوير الفوتوغرافي، إضافة إلى الوظائف المرتبطة بمراحل ما قبل الإنتاج، كنت أراقبه من بعيد، تمامًا كما كان يفعل والدنا، حتى وجد نفسه في مجال الصوت والتصوير الفوتوغرافي ثم التصوير السينمائي، كان لمروان بصماته في عملنا، وله سحره الخاص في التشبييك ونسج العلاقات، مما ساعدنا على توسيع عملنا وكسب شركاء جدد".

 

الشهيد مروان الصواف
الشهيد مروان الصواف

 

وبكل شجن يضيق: "منتصر ومروان، رحمهما الله، كانا يحبان العمل معًا والخروج في مهام مشتركة، واستشهدا معًا".

علا التي رثت العائلة

ولا يمكن في رحلة "الفَقد العائلي الصحفي" أن يتجاوز محمد كاتبة صحفية كانت أكثر من مجرد زميلة موهوبة أثيرة عنده، إنها صديقة العائلة بامتياز، كما يصفها، وهي الشهيدة علا عطالله التي عملت لسنوات طويلة تحت إدارة مصطفى الصواف في موقع "إسلام أون لاين"، قائلاً بحقها: "كانت عُلا ابنة أبي التي لم ينجبها، علا التي تعلمتُ من قلمها، هي لا تكتب بل تصوّر وتصنع فيلمًا في مقدمات تقاريرها، لم أكن أقرأ مقدماتها بل كنت أشاهدها، علا ناقدة متعمقة، إذا فتحت موضوعًا وجدتها مطلعة، ولها وجهة نظر خاصة؛ في السياسة والحياة وكرة القدم والأفلام، أكثر ما هو محفور في ذاكرتي عن علا حماسها لأفكارها ولوجهة نظرها تجاه الأشياء، وطريقتها في طرح كل ذلك".

"صرنا نموت في اليوم عشرات المرات"، يتحدث محمد عن الأيام التي حوصر فيها بمنزل نزح إليه أثناء هذه الرحلة الدامية، "كانت أيامً لا يمكن أن نُشفى منها؛ لكنها كانت ستكون فيلمًا لا يندثر"

وتبعًا لحديث محمد، ما زال بكاء علا لعائلته في مرثياتها المبدعة، وكتابتها عنهم في صفحتها على موقع "إكس" تتراءى أمامه، مضيفًا: "من أكثر الأخبار حزنًا على نفسي خبر استشهادها، لم أعرفه إلا بعد مرور أكثر من أسبوعين، حين اكتشفتُ أن مكان مكوثي عندما كنت محاصرًا في بناية، يبعد أمتارًا عن مكان استشهادها، حيث احترق بيتًا مجاورًا، وأُعدم من فيه عندما خرجوا هربًا، وكانت منهم علا، رحمها الله". 

الشهيدة علا عطالله
الشهيدة علا عطالله

 

ويعتقد أن أيّ استنكار لن يُجدي نفعًا، أمام استهداف الاحتلال المستمر للصحفيين في هذه الحرب الطاحنة، فمن رأيه أن "إسرائيل" تعمل كمن لديه العالم في جيبه، ضمن مساندة جُلّ الحكومات الغربية، وتمنع بلا حياء الإعلام الأجنبي من الوصول إلى غزة، محاولة أن تشيّع رواية وحيدة تفتقد لأيّ ركائز للمصداقية.

ويزيد بالقول: "إلا أن الصحفي الفلسطيني صاحب الخبرة ظل قادرًا على نقل الحقيقة بمهنية ووضوح، حقيقة صنعت الصورة التي أخرجها وعيًا، وفجرّت نقاشات لم يسبق أن كانت لدى الأجيال الجديدة في دول حكومات النفاق، ما زعزع من رواية الاحتلال بشكل غير مسبوق، لذا كان من الطبيعي أن يكون الصحفي هدفًا، وسيبقى هدفًا، ولا شيء يوقف المحتل ما دامت حكومات الظلم تسانده".

عن أيام الحصار

"صرنا نموت في اليوم عشرات المرات"، يتحدث محمد عن الأيام التي حوصر فيها بمنزل نزح إليه أثناء هذه الرحلة الدامية، "كانت أيامً لا يمكن أن نُشفى منها؛ لكنها كانت ستكون فيلمًا لا يندثر".

وكأنه يصوّر مشهدًا في فيلم لن تنصفه الكلمات: "بدأنا نجمع مياه المطر من فتحة أحدثتها قذيفة في سقف المنزل، واتفقنا في آخر أيامنا أن يكتفي كل واحد منا بربع لتر مياه يوميًا، وإلا سنموت عطشًا أو سنضطر للخروج فنُقتل بقذيفة أو إعدامًا برصاص الجنود؛ كما حدث مع بعض الجيران، كانت البيوت المجاورة تحترق والدبابات حولنا، ومن معنا في البيت يشاهدون الناس تموت في الشارع، لا نستطيع فعل شيء وإلا سنلحق بهم، كنا ننتظر قتلنا".

ويجيب عن سؤال عمّا إن كانت هناك مشاهد يجب توثيقها في فيلم: "كل مشاهد الفقدان أبكتني حد فقدان الوعي، عندما كاد الإعدام يدركني وأنا محاصر، مُلقى على الفراش بلا حراك من أثر الإصابة، وأصوات أقدام الجنود تُسمع خلف الباب، وجرافات الاحتلال تهدم سور المنزل، وشعوري بأني سأعدم دون حتى حق الدفاع عن نفسي، عندما يصبح لعب أطفالي وحديثهم عن الموت والقتل ونهش الكلاب لأجساد الشهداء، ويطلب أحدهم من أشقائه أن يدعو له عندما يموت حتى يدخله الله الجنة، وعندما ينشغل ابن شقيقي الناجي الوحيد في أسرته في السؤال عن كيفية العثور على جثامين أبيه وإخوته بعد أن جرّفت الجرافات مقبرتهم، وعندما لا أجد إجابة عن سؤال "وين نروح؟"".

كل الأماكن أضحت مهددة، وكل الملاجئ لم تعد آمنة، ويا لها من مشاعر بغيضة تغرقه في حيرته حين يبحث عن ملاذ ولا يجد، كل تلك التفاصيل جعلته يبكي حد الموت، وكلها جديرة بأن تعكس أفلامًا"، تبعًا لقوله.

وينثر في حوارنا معه مشهدًا آخر بحِرفية متقنة: "أحيانًا كنا نحاول نحن الشباب أن نلهي أنفسنا باللعب، فتقترب من شباكنا طائرة "الكواد كابتر"، تطلق رصاصها على نوافذ المنزل؛ ترتطم الرصاصات بالجدران؛ وينقلب اللعب إلى دعاء صامت خاشع، والدموع تنهمر؛ أحدهم يملي وصيته وآخر يخبرنا بديونه، كان الشباب يتحينون فرصة تنهمر فيها الأمطار بغزارة؛ قد تشكل غطاءً لنا وتعمي عنا الطائرات التي تغطي السماء، اثنان فقط تمكنوا من الهرب في جمعة ماطرة ونجوا". 

لم يجرؤ بعد

ولعلّ المثير في شخصيات قصص محمد التي تكون محور أفلامه، أنهم لديهم القدرة في التغلّب على التحديات وبناء حياتهم بأنفسهم، موضحًا هذه الرؤية التي يتمسك بها: "لا نراهم أساطير، فالأساطير تعيش في عالم الخيال، بينما نحن نؤمن بأهمية تقديم أبطالنا بشرًا، كما هم، يكافحون من أجل كرامتهم، وهذا يكفي".

وفيما إذا كانت تراود محمدًا فكرة أن يصنع فيلمًا عن قصته الشخصية في هذه الحرب، يصمت لبرهة، معقبًا: "أصعب فيلم يمكن أن تصنعه هو الفيلم الذي يتحدث عنك، خاصة إذا كان يعتمد كثيرًا على لغة الماضي، حيث يتكرر استخدام "كان"، إنه فعل يثقل القلب عند العودة إلى الذكريات". 

حاول محمد البدء بخطوة إنتاج فيلم يتحدث عن تجربته، لكنه لم يجرؤ بعد على اتخاذ الخطوة بعد، بحسب قوله

وربما حينها سيكون أحد مشاهد ذلك الفيلم، هو مرور محمد من الشارع الذي لا يتخيل أنه قد يملك الجرأة على المرور به، وهو شارع منزله في حي الشيخ عجلين، على شارع البحر، تتدافع هنا أمواج الحزن في عينيه عندما يتذكر: "هناك كان يجلس أبي ويتجمع حوله إخوتي قبل الغروب، ويلعب فيه أطفالي مع أطفال أشقائي أمام أعيننا، نقشّر فيه بذور القرع "اليقطين" التي يفضلّها أبي، وتقترب أمي لتشاركنا مع غياب الشمس، شارعٌ شهد على ضحكات عائلتي ومرح أطفالها وأنس الأحباب، سأغمض عيني عند الاقتراب منه، هذا الشارع سيكون متيقنًا أكثر مني بأن ما مضى لن يعود".

ويخبرنا، أنه حاول التفكير في بدء خطوة في اتجاه صناعة فيلم كهذا، وقد طلب منه أخيرًا بعض الأصدقاء في جهة إنتاج، خوض هذه التجربة، لكنه لم يجرؤ على اتخاذ الخطوة بعد.

ويختم حديثه لنا: "سأحتاج إلى الوقت والجرأة الكافية للبدء فيه، لكنني متأكد أنه عندما يحين الوقت المناسب، ستكون التجربة جديرة بالمحاولة".